دولي

زمام المبادرة

القلم الفلسطيني

حال القضية الفلسطينية خطير للغاية، والمنعطفات التي تواجهها شديدة التعرج، ومساحات المرونة تضيق يوماً بعد يوم، والسعي باتجاه إحالتها إلى شأن إنساني يتعاظم، فيما نحن تائهون، بانتظار المخلص، أو لحظة تاريخية فارقة، تحول مجرى التيار لصالحنا.

العمل السياسي لا يستوعب مبدأ السكون، ولا يعترف بفقه الجمود، فهو في عرفها أحد اثنين: إما قبول خجل بالمآلات، أو سوء فهم لمعنى السياسية ومستلزمات ممارستها. ولأننا نعلم أن أياً منها لا ينطبق على الحالة الفلسطينية، التي راكمت تجارب سياسية وميدانية عززت ولا تزال مبدأ رفض الاستسلام، إلا أننا نتساءل حول سبب الجمود القائم، في وقت يتحرك فيه العالم يمنةً ويسرى، محاولاً فرض حلول تتجاوزنا، وكأننا عدم.

دعوتي هذه لا تستهدف الكل الفلسطيني، بقدر ما تتوجه إلى حركة حماس، التي تتملك من أوراق الضغط ما يمكنها إيجاد بقعة ضوء، تتحسس من خلالها جدران النفق المظلم، لتمارس مناورة لازمة، تحفظ فيه القضية. فهي وإن أحسنت العمل المقاوم، يلزمها أيضاً خوض غمار القوة الناعمة، مدعومة بنجاحات ميدانية جماهيرية، تمكنت مؤقتاً وبالحد الأدنى من تقليص سقف الرؤية الأمريكية للحل. 

حماس مطالبة بامتلاك زمام المبادرة، وأن تشتغل على صياغة رؤية "اقتصادية"، ولا أقول سياسية، تتقاطع من خلاله مع نوايا أممية مخلصة، ترغب في نزع فتيل الأزمة القائمة في قطاع غزة. فليس من العيب انتهاج طريق الدبلوماسية الاقتصادية، فهي على الأقل تعفيها من دبلوماسية السياسية، التي لن تتجاوب مع اشتراطاتها، في ظل مؤامرة تسعى لتمرير رؤية "إسرائيل" على حسابنا.

بعبارة أخرى، من صالح القضية حالياً تجاهل مساعي تهرول نحو الحلول السياسية الجزئية، وأن تلجأ مؤقتاً إلى مقاربات جديدة تمس حياة المواطن بالدرجة الأولى، فالدبلوماسية الاقتصادية التي أدعو لها تكفل عدم الانزلاق إلى خانة التنازلات، وتحفظ مستقبلاً حق الفلسطيني في أرضه. 

ولننظر إلى اتفاقية أوسلو بعين المقارنة، فمنظمة التحرير لم تحسن توظيف نتائج الانتفاضة، لتنزلق نحو هوة التنازل السياسي دون استشراف مطبات المستقبل وتحولاته. ما ندعو إليه هو العكس، فنحن غير ملزمون بأي حلول أو صفقات لا تستجيب لطموحاتنا، ولكننا مطالبون بتوفير مقومات الاستمرار، حتى لو تطلب الأمر اللجوء إلى فترة هدوء، ترعاها جهات دولية، مع الإبقاء على حقوقنا راسخة.

الدبلوماسية الاقتصادية التي أعنيها لا تتقاطع مع الرؤية "الترامبية"، التي تتجه لاحتواء القضية لا حلها. ما أعنيه اقتصادي بحت، يمس احتياجات الجمهور، ودون أن تنتقص من حقوقه، أو تجذبه بشكل لاإرادي إلى خانة التفريط. فالمقصد مبادرة يكون للفلسطيني قدرة على توجيهها لصالحه، دون أن تفرض عليه من الخارج. 

أعلم أن أطروحتي ستواجه بكثير من الحجج، وهي برأيي مشروعة، خاصة وأنها تعبر عن حرص وتفاني تجاه القضية. فالبعض قد يرى فيها خطوة تستعجل قطف ثمار لم تنضج بعد، والآخر قد يعتبرها تنازل مستتبع بآخر مشابه لما أقدمت عليه حركات فلسطينية، فيما سيحاجج نفر ليس بقليل أنها غير مضمونة النتائج، خاصة وأن الطرف الإسرائيلي ماكر، وسيواصل مساعيه لإيجاد واقع يستحيل معه امتلاك قدرة تحويل المعطيات الميدانية باتجاهات غير متنبأ بها. فالبنسبة له تجربة "ياسر عرفات" حاضرة، وسيسعى جاهداً إلى تجنب تكرارها. 

ردنا على هذه المقاربات محدود، لكنه يبدأ بزعم أن الفلسطيني، وفي ظل هذه الرؤية، سيحفظ لنفسه قرار تحديد شكل وتوقيت المواجهة القادمة، فهو لن يكون مكبل بالتزامات سياسية، كما أن حجم الخسارة في المستقبل لن يتعدى ضيق العيش، وهو الثمن الطبيعي لأي رغبة في التحرر.

النقطة الثانية، والأهم برأيي، أن مبدأ صياغة المشاريع وطرحها كخطوة استباقية، يسهم في تفعيل عنصر المناورة الجوهري لتجنب أطروحات دولية لا تستقيم مع رؤيتنا. كما أنها تعطي مؤشرات لاشتراطات الحد الأدنى المقبول لدينا. 

فمثلاً، يمكن لحماس تقديم رؤية لمشروع يتضمن إقامة محطة للكهرباء وميناء بحري داخل غزة، مستبقةً أي تحركات تريدها في سيناء أو مناطق أخرى. فمكاسب هذا التحرك على المستوى الدعائي كبيرة، وليس أقلها نفي اتهامات لها بالتساوق مع حلول للجغرافيا دور فيها، كربط قطاع غزة بمصر؛ إضافة لكونها رسالة لا لبس فيها برفض التعاطي مع تحركات ناعمة الملمس مسمومة الأهداف.

إلى ذلك، يمكن للرؤية أن تؤدي وظيفة بالون الاختبار، لاكتشاف حقيقة نوايا كل الأطراف المنخرطة في قضايا غزة. فهي من جهة ستضع السلطة أمام موقف أخلاقي، كما ستسمح بقياس دقيق لردة فعل "إسرائيل"، ناهيك عن فحصها لطبيعة الرؤى الأوروبية والآسيوية، في وقت تشهد فيه علاقتها بالولايات المتحدة توترات، يمكن لنا استغلالها لصالحنا.

وبكل الأحوال، ما ندعو إليه خاضع للأخذ والرد، وما نراه من زاوية معينة، قد لا يراه الآخر بنفس المنظور، لكن ما نتفق عليه جميعاً أن مبدأ التفريط والتنازل مرفوض، وأن شعبنا قادر عن تجاوز المؤامرات مهما عظمت واشتدت.

حيدر المصدر

 

من نفس القسم دولي