دولي

مسيرة العودة.. الاستمرار واجب والمراجعة ضرورة

القلم الفلسطيني

بعد مائة يوم من انطلاق مسيرة العودة تثور حالة جدل في الشارع الفلسطيني حول هذا الأسلوب وجدوى استمراره، ويغذي هذا الجدل عوامل عدة أهمها ارتفاع تكلفة الضحايا، وكذلك خلط هدف العودة المجمع عليه وطنياً بهدف موضع خلاف واستقطاب، وهو كسر الحصار، وكذلك تصدر فصائل محددة لمشهد المسيرات، وهو ما حرم هذه المسيرة من ميزة مهمة تمتعت بها في لحظة انتشارها الأولى، وهي الطابع الشعبي الذي جذب إليها كل قطاعات الشعب الفلسطيني، وفجّر طاقة العمل في نفوس الرجال والنساء، وأظهر حضور الشعب بعد أن توارى أمام تعاظم مركزية الفصائل واحتكارها للعمل الوطني.

أتفق مع كثير من دعوات المراجعة لأسلوب مسيرة العودة، فأي جهد بشري يجب أن يقوّم في ضوء نتائجه، لكن هذه المراجعات يجب أن تكون على أساس التطوير والاستمرار وليس على أساس الانقطاع، فمسيرة العودة رغم كل الملاحظات التي يمكن أن تسجل على أسلوب ممارستها، إلا أنها حققت أهدافاً مهمةً يجب عدم التفريط فيها. والدعوة إلى وقف مسيرة العودة ما هي إلا هدية مجانية للاحتلال، وتفريط سهل بخيار يمثل ذخراً استراتيجياً لشعب يخوض نضالاً طويلاً في سبيل الحرية.

أعادتنا مسيرة العودة إلى الحالة الطبيعية التي يجب أن نكون عليها، وهي حالة الاشتباك والرفض العملي للاحتلال. فالشعب الفلسطيني لم يكن في حالة رخاء وأريحية لتتهم مسيرة العودة بأنها نغصت عليه رخاءه، بل كانت هذه المسيرة حلقةً جديدةً في مسلسل طويل مستمر منذ مائة عام من الاحتلال والثورات والانتفاضات التي تذكر دائماً بأن ثمة خللاً يجب أن يعالج، والتوقف عن أساليب مقاومة الاحتلال ورفضه يعني التدجين والقبول بواقع العبودية، لذلك فإن مسيرة العودة لم تزد على أنها أظهرت الحالة على حقيقتها، وأزالت بعض أوهام الاستقرار الخادع، وأعادت تذكير الأجيال الجديدة والعالم بالسبب العميق الذي يمنعنا من العيش الطبيعي والحياة الكريمة، وهو أن هناك قوةً احتلاليةً استيطانيةً تصادر حق شعب كامل في الحرية والحياة.

لقد فعّلت مسيرة العودة بأيدي الشعب الفلسطيني سلاحاً كان معطلاً، وهو سلاح المواجهة الجماهيرية المباشرة للاحتلال. والاحتلال قوي في مواجهة الفصائل ضعيف في مواجهة الحركة الجماهيرية العارمة، لذلك كرس الاحتلال جهده منذ بدء مسيرة العودة في إعادة المواجهة إلى مربع الفصائل، فاتهم حركة حماس بأنها هي من تنظم مسيرات العودة؛ لأن دعاية الاحتلال حين يقول إنه يواجه فصيلاً ليس موضع تناغم مع العالم أيسر من أن يقول للعالم إنه يواجه شعباً كاملاً. وقد ساعد سلوك وتصريحات بعض قيادات حركة حماس في المسيرة في تعزيز دعاية العدو، وزهد قطاعات كانت تشارك بفعالية في الأيام الأولى في استمرار المشاركة، وهذا من الأخطاء التي ينبغي أن تكون موضع مراجعة وتقويم.

كذلك، فإن مسيرة العودة عززت الوعي الفلسطيني والعالمي بقضية العودة، وهي جوهر مسألة فلسطين. وهي قضية على أهميتها وجوهريتها؛ إلا أنها لم تنل مكانتها المركزية في الخطاب الفلسطيني، وتقدمت قضايا أصغر منها، مثل الدولة والاستيطان والحصار. لقد كانت مسيرة العودة فرصةً لإعادة القضية إلى مربعها الأول، وشحنت نفوس الأجيال الجديدة بثقافة العودة، وبدأ الشباب يتساءلون عن قراهم وبلداتهم المحتلة، وكم يستغرق الوصول إليها بالسيارة أو مشياً على الأقدام، وتوافدت الجماهير إلى منطقة السلك الزائل المحرمة؛ لتمتع أنظارها بأرضها المحتلة.

إن صناعة وعي العودة هو هدف وطني ذو قيمة كبيرة؛ لأن التحولات التاريخية الكبيرة يجب أن يمهد لها بإيقاظ الوعي وحماية الذاكرة من الضياع. وهنا يسجل خطأ آخر وقعت فيه قيادات الهيئة الوطنية، وهو أنها أولت اهتماماً أكبر لكسر الحصار من قضية العودة، حتى على مستوى الشعارات المكتوبة. فميادين العودة تكاد تخلو من شعار واحد مكتوب عليه "حق العودة" أو ما يتعلق به. أتفهم كسر الحصار كهدف مرحلي، خاصةً أن الحصار أنهك الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لكن حتى تحقيق الأهداف المرحلية يكون بالتركيز على الأهداف الكبرى، وفي المستوى المبدئي التنظيري يجب أن تظل العودة هي القضية الأولى، والجماهير التي خرجت بكثافة غير مسبوقة في الثلاثين من آذار/ مارس فقد جذبها إلى الخروج شعار العودة وليس شعار كسر الحصار، لذلك كانت المصارحة مع الناس تقتضي أن تظل العودة هي شعار الميادين، وأن تحتل مكانتها المتقدمة التي تليق بها في خطابنا الإعلامي.

يجب أن تستمر مسيرة العودة لأنها أعادتنا إلى حالة الاشتباك والرفض الطبيعية مع الاحتلال، ولأنها ذكرت الأجيال الجديدة والعالم بحقيقة المشكلة وبقضية العودة ولأنها فعلت عنصر المواجهة الشعبية، ولأنها خلقت استنزافاً إعلامياً وسياسياً وأمنياً للاحتلال، وفي ذات الوقت يجب أن تقوم مسيرة العودة كي تكون قادرةً على الاستمرار، وأهم ما يجب أن يقوم فيها هو خفض تكلفة الخسائر فيها، فالعدد المهول الذي سقط من الشهداء والجرحى حتى اللحظة لا يتناسب مع طبيعة الهدف المعنوي لهذه المسيرة.. لو سقط ذات العدد من الشهداء والجرحى في العودة الحقيقية إلى أراضينا المحتلة لكان ذلك متقبلاً عند الناس، أما وإن الهدف إعلامي تعبوي، فإننا لسنا مضطرين لكل هذه الخسائر البشرية، وعلينا أن نفكر بكل الوسائل لتخفيض التكلفة لتقترب من الصفر. وحقيقة الميدان الذي نواجه به الاحتلال في مسيرة العودة هو الإعلام، فنحن في صراع على الصورة الإعلامية.

إن ما نريده من مسيرة العودة أن تظل قضية العودة حاضرةً في نفوس الأجيال الجديدة، وأن ينتبه العالم إلى حالة الموت البطيء التي يعيشها أهالي قطاع غزة، وأن نحرم الاحتلال من الشعور بالاستقرار، وأن نطرق أبواب السجن لنزعج السجان والمتواطئين معه. وكل هذه الأهداف تقتضي تفكيراً في أنشطة إعلامية وميدانية مبتكرة وإبداعية، وبعيدة عن التكرار الممل الذي يفقد الحراك روحه مع تقليل الاحتكاك المادي المباشر مع جنود الاحتلال، حتى لا نعطيهم فرصةً لإيقاع الخسائر في صفوفنا، فنحن بحاجة إلى حياة كل شاب وإلى كل قطرة دماء، ونحن نحب الحياة ولا نندفع إلى الموت، وما خروجنا إلا طرق لجدران السجن وطلب لحياة عزيزة كريمة.

إننا أمام عدو يخوض معركةً إعلاميةً بدهاء، وهو ما يقتضي منا أن نمتلك رؤيةً إعلاميةً مقابلةً للصورة التي نريد أن تصل إلى الوعي العالمي. كنت مع صديق إعلامي قبل أيام بالقرب من السلك العازل، فلفت نظري خلو السلك من أعلام دولة الاحتلال، فسألته عن تفسير ذلك، فقال لي إن دولة الاحتلال لا تريد أن يرتبط علمها في الوعي العالمي بصورة العنف والدماء. ثم لفت نظري إلى شيء آخر، وقال لي: ألا ترى أنهم يخفون القناصة خلف السواتر الترابية؟ إن المشهد الإعلامي الذي يخرج يوم الجمعة هو أعداد غفيرة من الفلسطينيين وكأنهم أرقام، ودخان كاوشوك وقص أسلاك، لكن لا أحد يرى صورة القاتل وهو يوجه رصاصاته نحو صدور المدنيين.

إننا أمام عدو يخوض معركةً إعلاميةً بدهاء، وهو ما يقتضي منا أن نمتلك رؤيةً إعلاميةً مقابلةً للصورة التي نريد أن تصل إلى الوعي العالمي.

نجح الاحتلال في إزاحة صورة مسيرة العودة إلى صالحه، فغلبت صورة الاشتباك على صورة القضية التي ينشدها المتظاهرون، وهوّل من الحديث عن الحرائق التي يسببها المتظاهرون حتى لم تعد ملامح التظاهر السلمي واضحةً، وهو ما يقتضي منا في المقابل أن نناضل من أجل صورة إعلامية أكثر إيجابيةً لنا وأنفع لقضيتنا، وهي صورة الشعب الذي يحب الحياة ويحب الجمال ويناضل من أجل حريته وحياته الكريمة.

نحن لا نقاتل عدونا بالسلاح، بل نقاتله بالصورة والرواية، فإذا استطعنا الوصول إلى الوعي العالمي بالتظاهرة السلمية والأغنية والمسرح والدبكة ومختلف أنشطة الحياة، وأقنعناه بروايتنا، فقد قطعنا شوطاً مهماً في طريق الحرية وبتكلفة اقتصادية.

أحمد أبو رتيمة

 

من نفس القسم دولي