دولي
مع الضحية في فلسطين مع الجلاد في سورية
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 25 جوان 2018
سمير الزبن
في محاولةٍ لإيجاد صوت فلسطيني جديد، ومعالجة الوضع الفلسطيني بلغةٍ نقديةٍ، وصولاً إلى البحث الجدي في إمكانية التوافق على صيغ تقدّم رؤية جديدة فلسطينيا، أشهر مثقفون فلسطينيون "ملتقى فلسطين"، عبر إعلان سياسي إلى الرأي العام الفلسطيني، مذيّلٍ بقائمة الموقعين عليه. امتلك الإعلان لغة سياسية معقولة، وطموحا سياسيا لإحداث فرق، على الأقل في اللغة السياسية الفلسطينية السائدة، وإيجاد صيغ وأشكال كفاحية تحاول استعادة وحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، بعد التشظي والانقسام الذي شهده في العقود الأخيرة. وهو ما تحتاجه الساحة الفلسطينية بشدة. وقد بذل الصديقان ماجد كيالي وأحمد برقاوي مع أسعد غانم وسعيد زيداني وغيرهم جهدا مشكورا لإخراج هذه المبادرة إلى حيز الوجود.
في أثناء النقاش الأولي للوصول إلى صياغة الإعلان، كانت المفارقة أنه يمكن إيجاد توافق بين طيف واسع من المثقفين والناشطين على ما تحتاج إليه الساحة الفلسطينية، لكن المتوافقين على الوضع الفلسطيني على طرفي نقيض في الوضع السوري. وعند أول احتكاكٍ بشأن المأساة السورية، أصبح وضع النقاش متوترا. لذلك تم الصمت عن الوضع السوري، على قاعدة أن الأولوية في النقاش للوضع الفلسطيني.
يطرح هذا الوضع سؤالا تقليديا في علم السياسة، أي تحت أي سقفٍ من الخلافات يمكن العمل معا في قضية سياسية؟ ومن ثم السؤال الأخلاقي، هل يمكن لضحيةٍ في صراع أن تقف مع الجلاد في صراع آخر وقريب جدا؟ وهل يمكن أن يكون المرء مدافعا عن الضحية، وعن قيم الحق والعدالة والإنسانية هنا، ويؤيد الجلاد في مواجهة الضحية على الجانب الآخر من الحدود؟ وإذا كان راضيا بهذا التناقض، أو لا يراه كذلك، هل أستطيع أن أعمل معه؟ وبالطبع ولد هذا سيلا من الأسئلة، هل يمكن أن نختلف بشأن القضية السورية ونتفق بشأن القضية الفلسطينية، هل يمكن أن أعمل مع مؤيدي مجرم الحرب في سورية للدفاع عن الحقوق الفلسطينية؟ وهل القيم تختلف بين القضيتين، الفلسطينية والسورية؟ وكيف لي أن أعمل مع شخصٍ يرى في القابع على رأس السلطة في سورية مدافعا عن الوطن، ويملك الحق في حماية الدولة السورية بذبح شعبه، وأن يكون مثل شخصٍ كهذا شريكي في صنع تصور مستقبل فلسطينيٍّ، مبني على العدالة والحق والقيم الإنسانية؟ هل العدالة والقيم يمكن أن تكال بمكيالين، فلسطينيا وسوريا؟
أعتقد أن المشكلة التي تبدو ثنائيةً واضحةً ومتصادمةً في الإطار النظري، تتخفى بأقنعةٍ كثيرةٍ في الواقع الموضوعي. وعندما يكون المرء خارج الدائرة المباشرة للصراع (وأحيانا كثيرة داخله)، يستطيع تزييف الحقائق والقناعات. وهناك في اللغة العربية كلمة "لكن" المفتاحية لمثل هؤلاء التي تجب كل ما قبلها. فقل ما شئت عن النظام السوري "لكن" هو يدافع عن سيادته الوطنية! هذا خطاب الـ"لكن" ليس تبريرا فحسب، بل هو خطاب ضد القيم والعدالة على طول الخط، في الوقت الذي يدّعي صاحبه أنه مدافع عن الحق، ليس في قضية أخرى، بل في القضية نفسها التي يؤيد فيها الجلاد في مواجهة الضحية.
التطابق الكبير بين الظلمين، الفلسطيني والسوري، يجعل القضيتين تنتميان إلى أقسى حالات الظلم التاريخي الذي يتعرض إليه شعب من الشعوب وأقصاها. وبالتأكيد لا تستمد القضية السورية عدالتها من تشابهها مع القضية الفلسطينية، فهي تستمد هذه العدالة من حجم الظلم الذي وقع على السوريين في العقود الأربعة الأخيرة، وخصوصا السنوات السبع المنصرمة من الذبح المعلن للسوريين. أي إن القضية السورية تتناقض مع القيم الإنسانية نفسها، وتتناقض مع العدالة والحق. أي أن القضيتين تنتميان إلى عالم الضحايا الذي يمارس فيه الظلم التاريخي على ضحايا، مطلق ضحايا.
العدالة والقيم الإنسانية التي لا تتجرأ على المستوى النظري، هي كذلك لا تتجزأ على المستوى العملي، فعلي عندما أريد تحديد موقف من صراع أن أرى أين موقع أطراف القضية بين موقعي الجلاد والضحية، من الظالم ومن المظلوم؟ هذا التحديد ضروري لأعرف مع من أتضامن، وهو لا يكون وفقا لمعايير شخصية، أنا أحدّدها، إنما وفقا لمعايير موضوعية. وبذلك يكون موقع الأطراف في هذه القضية أو تلك واضحا. قد يختار الشخص أن يقف مع الطاغية المجرم ضد شعبه الذي احتج عليه، لكن الغريب في مؤيدي النظام السوري خارج سورية أنهم يصرّون على أن النظام السوري هو الضحية. أي أنهم لا يكتفون بالوقوف مع الجلاد في مواجهة الضحية، بل ويزيفون الحقائق، ويتعاملون مع تزييفهم بوصفه الحقيقة المطلقة.
ولأن القيم لا تتجزأ، لا يمكن أن يكون من يقف مع الضحايا في قضية، يقف مع الجلاد في قضية أخرى، ولا أعتقد أن فلسطينيا عرف الظلم على مدار حياته، سواء عاش في الوطن أو في المنافي، يمكن أن يكون مؤيدا للنظام السوري في حربه على شعبه. ومن يدّعي الدفاع عن القيم في هذه القضية الفلسطينية، من دون أن يمدّها إلى القضية السورية أو غيرها من القضايا، يكون مدّعي قيم وليس حاملا حقيقيا لها. إن شخصا لا يرى سبع سنوات من القتل في سورية، ولا في مئات آلاف المعتقلين، ولا في تدمير بلد ومجتمع بالكامل ظلما تاريخيا يقع على شعب/ أخ يسكن في الجوار، وليس في أميركا اللاتينية. شخص من هذا النوع، أي مقياس للظلم يملك، وبأي عيون يرى، وبأي عقل يفكر؟!
في الحالتين، السورية والفلسطينية، القيم لا تتجزأ، ولا يمكن لمن يكون مع العدالة في فلسطين أن يكون مع الظلم في سورية. ولا يمكن الدفاع عن قتل السوريين بوصفه دفاعا عن القضية الفلسطينية، وهو أسوأ دفاع ممكن، لأنه ببساطة يسيء إلى القضيتين.
لكل هذه الأسباب ولغيرها، كما يقال في لغة المحاكم، لا يمكنني العمل فلسطينيا مع أي شخص يؤيد الجلاد، ولا يتضامن مع الضحية في سورية.