دولي

سقوط جديد في رام الله

القلم الفلسطيني

شهدت رام الله، في الأيام الماضية، اعتداء عناصر أمنية على متظاهرين سلميين في كل من رام الله ونابلس، في صورة تبدو كأنها امتداد طبيعي لصور القمع والسحل والضرب والإهانة في دول عربية عديدة، من سورية إلى مصر ولبنان والعراق...إلخ. ومع أن هذه الصورة تبدو كأنها منعطف جديد في التعامل الأمني مع المشكلات والخلافات الفلسطينية الداخلية، إلا أنها نتاج طبيعي ومتوقع لمسلسل سقوط السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله خصوصاً، فقد دعت المظاهرة المقموعة إلى رفع العقوبات عن غزة، أو بالأصح عن الفلسطينيين المقيمين في غزة، ليعلن الشبان المتظاهرون رفضهم أي إجراءات عقابية بحق أي مكون، أو جزء من أبناء الشعب الفلسطيني، تحت ذرائع سياسية، مثل الخلاف أو الصراع أو التجاوزات الحمساوية، كما يحلو لمؤيدي حركة فتح دعوتها. وكأن التجاوز الحمساوي، أو الخلاف الفتحاوي – الحمساوي، سبب يستحق تحويل المدنيين في غزة إلى أوراق ضغط، يتبادلها كلا التنظيمان، من أجل إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر. وهو ما شكل نموذجاً لمدى الانحدار الذي قد تصل إليه السلطة من أجل حماية نفسها في وجه أي شكل من الاحتجاج والرفض، من دون أي اعتبار لأي من الحقوق الإنسانية والقانونية الفلسطينية داخل الضفة وخارجها، فالسلطة وقيادتها هي الخط الأحمر الوحيد.

إذاً، وبالعودة إلى الحدث الجديد، استخدم عناصر الأمن الفلسطيني درجات عالية من القمع والهمجية، بغية تحقيق هدفين منفصلين ومتكاملين، أولهما سد الدرب أمام أي محاولة شعبية لرفض أو معارضة مجمل أو جزء من سياسات السلطة وممارساتها. والثاني عبر الكشف عن الأسلوب الذي سوف تتعامل به السلطة مع أي محاولةٍ شعبيةٍ لكسر حالة العزلة الفلسطينية عموماً، والتي تتعدّى عزل قطاع غزة فقط، حيث تعمل السلطة على تعميم حالة من الشقاق والانفصال بين مختلف الفئات والتجمعات الفلسطينية، وكأن سكان غزة مثلاً مختلفون عن سكان الضفة، لذا لا يجب أن تشهد مدن الضفة أي تحرك شعبي، يطلب من السلطة الكفّ عن أي من إجراءاتها بحق القطاع المحاصر وأبنائه. حيث تنطلق السلطة من خصوصية كل تجمع فلسطيني من أجل تكريس الانقسام الاجتماعي، بدلاً من العمل على إيجاد مخارج وحلول، تساهم في توحيد النضال الشعبي أينما كانوا، فلديها الفلسطينيون داخل الأراضي المحتلة عام 48، واللاجئون خارج فلسطين، بالإضافة إلى كل من غزة والضفة والمقدسيين. معتقدة أن تكريس هذا الانقسام سوف يمنحها الحق في التعامل مع كل منهم وفقاً لرؤيتها فقط، ومن دون أي اعتبار وطني أو إنساني أو سياسي، ومن دون أي حق لأي من المجموعات الفلسطينية الأخرى في إبداء الرأي أو رفض أي من هذه الممارسات، بما فيها التي ترقى إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية، كما يحدث في الإجراءات العقابية بحق سكان غزة.

وتعود بدايات هذه الممارسات إلى لحظة تبني البرنامج المرحلي، السابق لوجود السلطة الوطنية الفلسطينية، الذي تجاهل جملة من الأصوات الرافضة والمنددة به، وجسد أولى خطوات التنازل عن الحقوق الفلسطينية، وأول خطوةٍ في مسار عزل المكونات الفلسطينية عن بعضها بعضاً، لا سيما اللاجئين خارج فلسطين، والفلسطينيين الصامدين داخل الأراضي المحتلة منذ 1948، وهو ما شكل مدخلا سياسيا نحو سقوطٍ أشد وقعاً على مجمل القضية الفلسطينية، من خلال التوقيع على اتفاق أوسلو الذي مثل القاعدة السياسية التي وجدت السلطة وفقاً لها.

فمن البرنامج المرحلي إلى اتفاق أوسلو، نلحظ خطوات تكرس مزيداً من التخلي والتنازل عن الحقوق الفلسطينية، بداية من التخلي عن الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية التاريخية، إلى استحالة التطبيق الكامل لحق العودة، في حال تطبيقه أصلاً، مروراً بتكريس الانقسام الاجتماعي الفلسطيني، عبر تحويل القضية الفلسطينية إلى قضايا مجموعات متعددة ومتفرقة، لكل منها مصالحها وظروفها وأوضاعها. كما عمل الاتفاق، وما تبعه من اتفاقات على إيجاد سلطة فلسطينية وهمية، أو سلطة بلا سلطة وفقاً لأقوال رئيسها الحالي محمود عباس، أو بدقة أكبر سلطة أمنية تهدف إلى حماية الاحتلال، ولا تتمتع بأيٍّ من مظاهر السيادة، مالياً أم جغرافياً أم سياسياً أم اقتصادياً. ومن ثم مضت هذه السلطة الوهمية نحو انحدار جديد؛ بإقرارها إجراءات عقابية بحق قطاع غزة، بذريعة انقلاب حماس العسكري على الشرعية والقانون هناك، على الرغم من أن القطاع محاصر أصلاً إسرائيلياً، ما يجعلها شريكاً للاحتلال في حصاره، كما يساهم في تبرئة الاحتلال من جريمته التي يرتكبها بحقه، أو يصرف الأنظار عنها بالحد الأدنى، عن قصد أو دون قصد. وأخيراً تتجاهل السلطة بذلك القانون الدولي ومجمل القوانين والأعراف الدولية والمحلية التي توضح أن جميع الإجراءات العقابية الجماعية ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مهما كانت الذرائع، ومهما كانت الظروف، وهو ما ينطبق كلياً على قطاع غزة الآن.

وعليه، يتجسّد الموقف السياسي والأخلاقي الطبيعي منها في إدانة أي نظام يستخدم الإجراءات العقابية الجماعية بحق أي جهةٍ، أو طرفٍ في العالم أجمع، والأحرى تجاه أبناء جلدته وشعبه ذاتهم، فهل تتوقع السلطة من شعبنا الفلسطيني أن يصمت طويلاً على مثل هذه الإجراءات، ونحن نقبع تحت سيطرة الاحتلال وحكمه، ومن أجل خلاف على سلطة وهمية مجيرة لصالح الاحتلال ولخدمته وحمايتة، أم تعتبرها فرصة من أجل تكريس حكم أمني، تحت عباءة الاحتلال، ويمثل أغراض الاحتلال، من أجل قمع الشعب الفلسطيني وتقويض أي إمكانية لنهوض شعبي وطني وتحرّري واضح وشامل؟

لا تعدو أن تكون الجريمة الجديدة عن كونها حلقة في سلسلة الانحدار السلطوي المشار إلى أبرز حلقاته سابقاً، كما أنها تدق جرس الإنذار في الوقت نفسه، وربما لآخر مرة، قبل أن تكشف عن اندماجها الكامل مع الاحتلال وفي خدمته، حتى لو تطلب الأمر حصار مجمل الشعب الفلسطيني وقمعه، من قطاع غزة إلى الضفة الغربية إلى أي بقعةٍ يوجهها الاحتلال لها. لذا لا بد من أن تتضافر جميع الجهود المبدئية والحرة والوطنية، من قبيل إدانة الممارسات القمعية، وإدانة الإجراءات العقابية بحق قطاع غزة، إلى رفض المسار الاستسلامي خصوصاً، والبرنامج المرحلي عموماً، من أجل وضع حد لانحدار الوضع الفلسطيني الذي أسست له القيادات الفلسطينية والسلطوية، والعمل من أجل التأسيس لمرحلة جديدة، تعيد الاعتبار إلى قضيتنا العادلة، باعتبارها قضية واحدة لشعب واحد، ولدولة واحدة على كامل الأراضي الفلسطينية التاريخية.

حيّان جابر

 

من نفس القسم دولي