دولي

هذه الاستحقاقات الفلسطينية الضائعة

القلم الفلسطيني

ليس الفرد دالةً شرعيةً لأي نظام سياسي، بل إن الكل الوطني هو الذي يمنح المؤسسات شرعيتها بانتخاباتٍ ديمقراطيةٍ نزيهة، وبالتالي التأسيس لشرعية الفرد، وعكس ذلك تعيش الشرعية فراغا مهولا، لا يستطيع أحد أن يمنحها لنفسه أو لغيره، وطالما أن الفرد دالة سلطة، كذلك هو النظام السياسي دالة سلطة، بل أكثر سلطويةً، حين يعزل نفسه عن المؤسسات، فلا يعود يمثل ما ينبغي أن يمثله من واقعٍ سياسيٍّ منتخب، أو ما يجري توافق الكل الوطني على اعتباره الشرعية التي تعكس مصالح وتطلعات سياسية شعبية، ممثلة للأغلبية الغالبة من الشعب.

من هنا، فإن الدعوة "المتعجلة" لانعقاد دورة جديدة – قديمة للمجلس الوطني الفلسطيني، على الرغم من ثغرات النصاب وعدم توافق الكل الفلسطيني، وبقاء الانقسام السياسي والجغرافي أمراً واقعاً؛ يتعاكس ومسألة الوحدة الوطنية، ويبعد الشرعيات عن تحقيق لحمتها الوطنية وتوافقاتها واتفاقاتها على طبيعة العمل السياسي والتنظيمي. ولن يكون هذا كله خليقا بإنجاح انعقاد هذه الدورة "المتعجلة" غير التوحيدية وتثميره، ومهما تكن قراراتها، لن تستطيع تحقيق أهداف الكل الوطني، استجابة لطموحات استعادة وحدة القوى والبرنامج السياسي الموحد، أو شبه الموحد، وصولا إلى ما يوحد وطنيا، لا إلى ما يكرّس الفرقة والانقسام، فهل هذا ما تسعى إليه قيادة السلطة ومن يواليها من فصائل، لتجديد شرعية المجلس الوطني الفلسطيني باعتباره مؤسسةً وطنيةً من المفروض أنها تشرّع لبرنامج سياسي وحدوي، ينضوي الكل الفلسطيني  

تحت رايته، ويتفق الجميع على ضرورته في هذه المرحلة الدقيقة التي افتقد فيها الكفاح الوطني الفلسطيني بوصلته الموجهة، وفقدت الشرعيات كل الشرعيات في سياقها أدوارها الكفاحية، مستبدلةً إياها بنوازع ونزعات سلطوية أو تسلطية، شخصية وفئوية وفصائلية، شرّشت كما الاستبداد في تربةٍ خصبتها التراجعات والانحرافات والسياسات الزبائنية والوظائفية العقيمة، منذ غيوم "أوسلو" التي أضافت سوادا إلى سواد النكبة. 

بالتوازي، أو في المقابل، كانت هناك مساع حثيثة إلى عقد مؤتمر وطني في بيروت (جرى استبعاده لأسباب عديدة)، وآخر في غزة، بمشاركة قوى وفصائل وهيئات وأعضاء المجلس الوطني (مائة على الأقل) الذين أعلنوا مقاطعتهم خطوة انعقاد المجلس في رام الله، تأكيدا واحتجاجا على عدم مشروعيته، وتفرّد حركة فتح وفصائل أخرى بالدعوة إلى انعقاده، وذلك كله بعيدا من الحرص على وحدة منظمة التحرير الفلسطينية وقواها وفصائلها بما تمثل من بيت ووطن معنوي لجميع الفلسطينيين، أو بما كانت تمثله من وحدةٍ كفاحيةٍ، أفقدها الانقسام السياسي والجغرافي نصابها الوطني، ما أضعف المواقف الفلسطينية جميعها، وأفقدها وحدة الهدف والبرنامج، وبالتالي بات الجميع غير قادرٍ على قيادة العمل الكفاحي والوطني الفلسطيني، فكانت البديل، أو إحدى البدائل الملحة، تلك المسيرة الكفاحية الراهنة: مسيرة العودة إلى الأرض عنوانا لمواصلة مسار المقاومة الشعبية التي تشقّ طريقا كفاحيا تحرّريا، تجاوزت فيه جماهير الشعب الفلسطيني، أوضاعا قيادية لم تعد تستطيع أن تعكس آمال وطموحات شعب بغالبيته، ليس مغرما بسياسات الاستبداد والتفرد بالسلطوية، على اختلاف تلوّناتها واتجاهاتها الفئوية. 

على أن فقدان "النصاب السياسي" لعقد دورة غير عادية للمجلس الوطني، لا يمنح دورته "المتعجلة" الآن الشرعية المطلوبة، استنادا إلى نصابٍ عدديٍّ جرى "طبخه" وتدبيره" على عجل كذلك، وكأن من يسعون إلى تجاوز عقبات عقد دورةٍ قانونيةٍ صحيحة وطبيعية للمجلس الوطني، يسابقون الزمن قبل حدوث إكراهٍ ما أو تداعيات إكراهية منتظرة، لا يعود بعدها للسلطة قدرة الهيمنة على اتخاذ القرارات، لا سيما المنسجمة مع محدّدات اتفاق أوسلو واشتراطاته، بضماناته الأمنية والسياسية والاقتصادية. 

وهكذا وقبل الوقوع في الفراغ الكبير والفوضى المدمرة، هناك من يسعى إلى ترتيب البيت الفلسطيني، بعيدا من روح الكفاح التحرّري وإبداعات المقاومة الشعبية واستبسال المواطن الفلسطيني في الدفاع عن قضية الأرض وحق العودة، وكامل حقوق اللاجئين في وطنهم وفي مخيمات اللجوء والشتات؛ وهذه طامةٌ كبرى، والجريمة الأكبر التي ترتكب بحق شعبٍ بدأت مأساته قبل سبعين عاما. وها هي معالم نكبة أخرى يراد لها أن تستمر وتتواصل، في بداية العقد الثامن لنكبة أو نكبات لا يواصلها كيان العدو الاستعماري فقط، بل هناك من يشترك في مواصلتها عونا ودعما ومساعدة من أجل مصالحه أيضا، بمواقفه كما بقراراته الخاطئة، وبأخطائه التاريخية التي قامت، منذ البداية، على قاعدة الخطيئة التوراتية كخطيئة بدء خرافية، حين وجدت من يصدّقها ويصادق عليها كأكذوبة "مقدّسة"، ضيّعت فلسطين ومعها شعبها في شتات داخلي وخارجي، مكشوفا بلا أي غطاء قيادي. 

وبذا يكون الانقسام السياسي والجغرافي، وقد بات يفرخ ظواهر انقسامية عديدة، يذهب جميعها في اتجاهات تعظيم المأزق الوطني الفلسطيني، بدلا من معالجته، بما يكفل إيجاد حلول تصب في مصلحة الكل الوطني؛ وكما نرى فإن الإصرار على سياسات التفرد الأحادية يقود اليوم إلى انتعاش سياسات الفئويات الفصائلية، واستنهاض عصبياتها؛ في تجاهلٍ متعمد لحال المقاومة الشعبية الناهضة باعتبارها مسلكا استراتيجيا يحاول الانتفاض مجددا في وجه الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، ومن يتشارك معه تنسيقا وتطبيعا، ويغزل معه "ناعما".

أخيرا، ما الذي أبقته السلطة والفصائل التي تدور في فلكها، أو التي تعاديها، من منظمة التحرير الفلسطينية، لترثه أو تورثه للأجيال القادمة، كي تواصل مسيرتها على درب التحرير والعودة الذي كان الطريق الوحيد لآمال الذين آمنوا ويؤمنون بالمشروع الوطني الفلسطيني، الهدف والغاية لأجيال الشعب الفلسطيني، لرفع الراية خفاقةً من دون تنكيسها في منتصف الطريق، بدون تحقيق أيٍّ من الأهداف الوطنية؟

ماجد الشيخ

 

من نفس القسم دولي