دولي

عن خطاب عباس.. ارتجال في مسألة حسّاسة

القلم الفلسطيني

كان من النتائج العرضية، لكن المهمة، لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، أن تأثرت سلباً علاقات السلطة الوطنية بألمانيا، وهي نتيجة غريبة ولا مقدمات لها، فالعلاقة بين الجانبين عادية، وتندرج ضمن علاقات السلطة بالاتحاد الأوروبي، والاتحاد مُموّل لمشاريع السلطة، ومن أقرب الأطراف الدولية سياسياً للجانب الفلسطيني. 

وعلى سبيل المثال، فإن الدول الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، ومنها ألمانيا، رفضت تسليم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بتسمية الاحتلال الإسرائيلي القدس عاصمة له، ورفضت بالتالي نقل السفارات الأوروبية إلى القدس (جمهورية التشيك شذّت عن التوجه الأوروبي، وأعلنت عزمها على نقل بعض أقسام السفارة إلى القدس، ما أثار انقساما بين رئاستي الدولة والحكومة. وسعت رئيسة حكومة رومانيا فيوريكا دانشيلا إلى استصدار قرار بنقل سفارة بلادها إلى القدس، وهو ما اعترض عليه بشدة رئيس البلاد، كلاوس يوهانيسكون، لأن الأمر يتعلق بصلاحيات الرئاسة). 

لا شأن للمشكلة الفلسطينية المستجدة مع برلين بالقدس أو بنقل سفارة، أو بأيٍّ من جوانب العلاقات الثنائية، بل تتصل بما ورد في خطاب الرئيس محمود عباس في افتتاح جلسات المجلس الوطني في رام الله، 30 إبريل/ نيسان الماضي، بما يتعلق بالهولوكوست. وكان عباس قد قال في خطابه: "لماذا تحصل تلك المذابح (الهولوكوست وغيرها) لليهود؟ هم 

"الأغرب أن يقحم الرئيس عباس نفسه في مسألةٍ لم يكن شعبه طرفاً فيها"  يقولون (لأننا يهود)، أريد إحضار ثلاثة يهود بثلاثة كتب، ومنهم جوزيف ستاين وأبراهام وإسحاق نوتشرد، يقولون إن الكراهية لليهود ليست بسبب دينهم، وإنما بسبب وظيفتهم الاجتماعية". وأضاف: "المسألة ليست بسبب دينهم، بل بسبب الربا والبنوك، والدليل على ذلك كان هناك يهود في كل الدول العربية، وأتحدى أن تكون حدثت قضية ضدهم في الوطن العربي منذ 1400 سنة لأنهم يهود". 

رفضت الحكومة الألمانية ما ورد في خطاب الرئيس عباس، بما يتعلق بالمحرقة النازية (الهولوكوست)، وقال وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، في 2 مايو/ أيار الجاري، في تغريدة على "تويتر": "إننا نعارض أي شكل من أشكال التقليل من شأن الهولوكوست". 

وأكد الوزير أن بلاده "تتحمل مسؤولية الجريمة الأبشع في تاريخ البشرية"، وقال: "التذكير بها يظل تنبيها وتكليفا لنا بالتصدي لأي شكل من معاداة السامية على مستوى العالم بمنتهى الحسم". 

ولعل الرئيس عباس كان يتصور أن ما ورد في خطابه حول هذه المسألة قد يثير حكومة الاحتلال والأحزاب الصهيونية، والمجموعات المؤيدة للصهيونية في الغرب دون سواهم. وربما لم يخطر بباله أن يأتي الاعتراض من ألمانيا غير اللصيقة بالتطرّف الإسرائيلي، بل الأقرب إلى مناوأة هذا التطرف، لكن المسألة لا تتوقف على الحاضر، على الظرف السياسي الراهن، فالمحرقة جريمةٌ سبق أن اقترفها نازيون ألمان، وتقوم السياسة الألمانية يميناً ويسارا ووسطا، في ركن أساس منها على الاعتراف بهذه المحرقة بدون لبس، وإدانتها بصورة قاطعة، وتدفع الحكومات الألمانية بصورة دورية تعويضاتٍ لتل أبيب عن تلك الجريمة، على الرغم من أن الدولة العبرية لم تكن قائمة إبّان وقوع تلك المحرقة، ولم يكن الضحايا اليهود من "التابعية" الإسرائيلية آنذاك، بل كانوا مواطنين أوروبيين. غير أن الحكومات الألمانية ترى في دفع التعويضات مصداقا لتبرؤها التام، وإدانتها الكلية لتلك الكارثة التي وقعت بأيدٍ ألمانية، وعلى أرضٍ ألمانية. 

من هنا، جاء الاعتراض الألماني على ما ورد في خطاب عباس بهذا الخصوص، وحيث جرى اعتباره تقليلاً من شأن "الجريمة الأبشع في تاريخ البشرية، والتي تتحمل ألمانيا مسؤوليتها". وقد وقعت المذابح بين عامي 1941 و1945 في جميع أنحاء ألمانيا، وفي المناطق التي كانت ألمانيا تحتلها. ويتساءل المرء هنا عن الحكمة من القول إن المحرقة "وقعت ضد يهودٍ ليس لأنهم يهود، وإنما بسبب وظيفتهم الاجتماعية في أعمال الربا والبنوك"، فهذه "الوظيفة الاجتماعية" لا تجيز وقوع جريمة الإبادة الجماعية تلك، ولا تفسرها. 

الأغرب أن يقحم الرئيس عباس نفسه في مسألةٍ لم يكن شعبه طرفا فيها، فالهولوكوست جريمة أوروبية، وقعت على أراضٍ أوروبية ضد مواطنين أوروبيين، وهي جزء من التاريخ الشقي، التاريخ الأوروبي الأسود، تاريخ الحربين الكونيتين المدمرتين، وتاريخ التوسع الاستعماري والانتفاخ القومي وصعود الإمبراطوريات. ولا شأن للعرب والفلسطينيين به إلا من زاوية التضامن مع كل ضحايا التوحش والتمييز والعنصرية في العالم، وحيث نال الفلسطينيون والعرب قسطهم الوافي من تلك السياسات المريضة، كما نالته شعوب ومجموعات بشرية ودينية أخرى، منهم يهود أوروبا. 

هل كان الرئيس عباس معنياً في خطابه بإعادة كتابة التاريخ الأوروبي مثلاً؟! وهل يحظى بمتسع من الوقت، ومن رفاهية الانشغالات، كي يقحم نفسه بهذه الطريقة في مسألة أوروبية محضة؟ كان عليه، بمقتضى المصلحة الوطنية، أن يضع العالم أمام مسؤولياته في كبح جرائم الهولوكوست التي يتعرّض لها شعبه، من أولئك الذي يعتبرون أنفسهم أحفاد ضحايا الهولوكست النازي، وأن يشدد على إدانة كل جرائم القتل ضد الشعوب والمجموعات البشرية في كل مكان. وكان عليه بالمناسبة بدلاً من أن يسوق تفاسير للهولوكوست الأوروبي أن يقول كلمةً ضد استئصال المخيمات في سورية، والتنكيل الجماعي بأبناء شعبه هناك، لا أن يمضي في سياسة إسقاط هؤلاء المعذبين من الحسابات، والتغاضي عن تصفية المخيمات هناك، وكما دأبت السلطة على هذا الإسقاط والتغاضي منذ سنوات. 

وبينما سعى الرئيس عباس إلى مخاطبة العالم، وتذكيره بالقرارات الدولية غير المنفذة، بما فيها المتعلقة بالقدس واللاجئين، فقد جاء الارتجال السياسي (على الرغم من أن الخطاب كان مكتوباً..) بشأن الهولوكوست الأوروبي، ليوفّر فرصةً للمندوب الإسرائيلي في مجلس الأمن كي يصنف عباس بأنه معادٍ للسامية، وبما يحجب كل ما ورد في خطابه الطويل، ويشتت الأنظار عنه. 

والأسوأ هو إثارة خلافاتٍ مع أطراف أوروبية، مثل ألمانيا، نتيجة عدم أخذ مسألة بالغة الحساسية في الوعي الأوروبي، مثل الهولوكوست، بما تستحق من جدّية، وبما يدلل على خللٍ غير هيّن في إجادة مخاطبة العالم. وفي وقت ترتدي فيه الصراعات السياسية طابعا ثقافيا متزايداً، وبالمعنى الواسع لمفهوم الثقافة الذي يتعلق بالعقلية وبالقيم الكونية والمعايير الأخلاقية المشتركة.

محمود الريماوي

 

من نفس القسم دولي