دولي
الأهمُّ في المجلس الوطنيّ: لا.. ومُتطلَّباتُها
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 04 ماي 2018
الكلُّ يقول إنَّ فلسطين هي الأهمّ، مِن الفصائل ومِن القيادات، وإنَّ الخطر القريب والصريح الذي يهدِّد أهمَّ القضايا: القدس واللاجئين والأرض بالاستيطان، يجب أن يُوحِّد على قواسم مشتركة ضرورية، لكن الفعل السياسي، أو الإعلامي، لا يقترب فعليا، مِن تلك الأولويات، بقدر ما يزدهي بمجرَّد انعقاد المجلس الوطني، ويشغَل جانبا غيرَ هيِّن، مِن المشهد، الهجومُ على الذين قاطعوا دورته هذه، وكذلك الأمور الداخلية فيه، وتحديثاته، كانضمام أعضاء جدُدٍ إليه، مثلا. صحيحٌ أنَّ المأمول هو اصطفافٌ وطنيٌّ واسع، وموحّد، في هذه اللحظات التاريخية، فعلا، من تاريخ القضية والصراع.
وصحيحٌ أنّ تجديد الدِّماء والطاقات أمرٌ حيوي، لكن العبرة بالبِنية السياسية للنظام السياسي الفلسطيني برُمَّته، وفي مدى صلاحيته، أو تأهُّله، لمواجهة تلك الأخطار التي تجعلنا في مواجهةٍ مع القوَّة الكبرى في العالم، وهي أميركا/ دونالد ترامب الذي بطاقمه العتيد، مِن مايك بومبيو إلى جون بولتون، يصل إلى درجةٍ غير مسبوقة في التماهي مع الاحتلال.
بومبيو القادم من عالم المخابرات، لا من عالم الديبلوماسية، والشديد التماهي مع دولة الاحتلال، إلى درجة تبلور انطباعٍ في دولة الاحتلال، أنَّ الأخير لو بقيت هناك ساعات إضافية لأطلق بنفسه بضعة صواريخ على المواقع التي استهدفتها إسرائيل في حماة وحلب. وبولتون الذي عيّنه ترامب مستشارا قوميا، وهو المعروف بولائه الزائد لدولة الاحتلال، حتى التشكيك في أنَّ ولاءه لها تقدّم على ولائه لأميركا نفسها، كما ذهبت الباحثة الأميركية في شؤون الشرق الأوسط، فيليس بنيس، إلى حدّ وصفه بـأنه "العميل الإسرائيلي الذي يقدّم المصالح الإسرائيلية على مصالح بلده الولايات المتحدة".
ولا تتوقف المخاطر على الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، حتى، مثلا، تجنُّب الخارجية
الأميركية، أول مرَّة، في تقريرها عن حقوق الإنسان، وصْفَ أراضي الضفة الغربية وغزة (بالإضافة إلى الجولان) في الأراضي المحتلة، إذ بدأت دول، وإن كانت ليست بتلك الأهمية الدولية، تتخذ قرارَها بنقل سفاراتها إلى القدس المحتلة، وحتى في أوروبا، يعترف البرلمان الألماني بدولة الاحتلال، دولة يهودية؛ الأمر الذي يصبّ في تصفية قضية اللاجئين.
وهنا، تحدَّث الرئيس محمود عباس عن احتمالية إقدام السلطة، قريبا، على "علاقات صعبة" مع إسرائيل والولايات المتحدة.
وهو أمر سبق الحديث عنه، وله مُسبِّباته القويَّة؛ لأنَّ واشنطن تميل إلى الإملاءات، وفرض الوقائع التي لا تُبقي معنىً للتفاوض، ولأنَّ دولة الاحتلال، بتلك التشكيلة الحاكمة فيها، توظّف هذه الانعطافةَ الأميركية، أكبر توظيف، وتستَبِقُها بوتائر غير مسبوقة، نحو الإجهاز على ما تبقَّى من حقوق فلسطينية. ولكن هذه العلاقات الصعبة، المتجهة نحو قدرٍ من المواجهة، تتطلَّب، بالتأكيد؛ حتى تَخْرُج إلى النور، أولا، ثم حتى تصمد، ثانيا، أرضيَّةً صُلْبة، فلسطينيا، وعربيا، وإسلاميا، ودوليا، وأوّل تلك الاستحقاقات هي الفلسطينية، بتقديم الأولويات النضالية على الأولويات السُّلْطويَّة، والهواجس الوطنية على الاعتبارات الفصائلية، والأبعاد الإستراتيجية على الاهتمامات الآنِيَّة.
لا مبالغة في القول إن هذه البِنى السياسية التي تناغمت مع السلطة الفلسطينية، القائمة بموجب اتفاقات أوسلو، والمُقيَّدة بها، ليست مهيّأة، فيما آلت إليه، للنهوض بهذا العبء الراهن، أو بهذه المهمة الوطنية الشاملة. عملية الخروج من الأطوار التي انزلقت إليه القضيةُ الفلسطينية ليس بالأمر البسيط، عمليا، بعد أن انبنى كيانُ السلطة على العلاقة البنيوية، اقتصاديا، وأمنيا، وسياسيا، مع واشنطن، وبعد أن تكيّفت أحوال الفلسطينيين، معيشيا، ووظائفيا، (بالارتباط الحيوي بالراتب المرتبط بدوره بالدعم الخارجي، وبالتحويلات التي يحوّلها الاحتلال، كل شهر، من أموال الجمارك والعوائد الأخرى التي يجمعها الاحتلال، نيابةً عن السلطة الفلسطينية).
ثم يكون من الضروريِّ، الآن، ولاحقا، الالتفاتُ إلى الحالة العربية، ولا سيَّما الرسمية، من حيث الاستعدادُ لتحمّل عبء دعم الفلسطينيين، وهم يسيرون نحو المواجهة مع واشنطن وإسرائيل. وباتت نظمٌ عربية، كثيرة؛ بسبب خوفها من شعوبها، بسبب إخفاقاتها الداخلية، اقتصاديا، واجتماعيا، وبسبب نزاعاتها الخارجية المستنزِفة، ولأنها غير بادية النهايات، باتت أكثر حاجةً إلى التوافق مع أميركا، وعدم التصادم مع دولة الاحتلال. ولذلك هي غير قادرة على مناصرة القضية الفلسطينية، إلا فيما لا يؤثر على تلك المخاوف والأولويات.
بالطبع، ليس من مؤشِّرات كافية على أنَّ تلك "العلاقات الصعبة" ستكون بالمواجهة المباشرة، أو الكُليَّة، ولكن قد تكون، (إذا كانت) بالاتجاه نحو المحافل الدولية، والمحاكم الدولية، وهو المسار الذي لا يُحرِز نتائج حاسمة، فعليا، أو مضمونة، وإن كان من شأنه أن يراكم وعيا عالميا، يصبّ في عزلة الاحتلال، وكشف عنصريته، ومقاطعة مُكوِّناته، وفي مقدِّمتها المستوطنات ومنتجاتها، كما يظهر في النجاحات الملحوظة التي تحقِّقها حركة المقاطعة الدولية "بي دي أس".
ولكن لا ينسجم مع هذه التحوُّلات الموعودة، الاستمرارُ في التناغم مع الشروط الأميركية والإسرائيلية، القاضية بتجريد المقاومة من السلاح، والنظر إليه خارج سياق الصراع الذي لم ينتهِ، وتحديدا، مِن الاحتلال الذي يبالغ، مثلا، في تصعيد التأزُّم الإنساني، في قطاع غزة، بتقصُّد القتل، والإصابات الخطِرة، في مواجهة فعاليات مسيرة العودة الكبرى التي تعنون المرحلة، إستراتيجيا، باستدعاء مفردات الصراع الأولى. وآنيّا، بتظهير معاناة ما يقارب مليوني فلسطيني، باتت حياتهم أكثر تعرُّضا للتهديد، بعد خصم السلطة الفلسطينية 30% من رواتب الموظفين، وعدم صرف راتب شهر مارس/ آذار الماضي لآلاف الموظفين المحسوبين على السلطة، وبعد الأزمة التي تواجه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، مع وجود تحذيرات على لسان الناطق الرسمي لها، سامي مشعشع، من أنَّ الوكالة قد تعجز عن تقديم خدماتها للاجئين، مطلع سبتمبر/ أيلول المقبل، في حال لم تُحلّ الأزمة المالية التي تعاني منها. وذلك يشمل المدارس والخدمات الصحية، كما يشمل مساعدات غذائية عاجلة لنحو مليون فلسطيني في غزة.
والسؤال، هل تتغلَّب هذه التحدِّيات الحقيقية المُلحّة، وطنيا، وشعبيا، لتأخذ دورَها في سياسة فلسطينية وطنية شاملة، تتعالى على الخلافات، وتعي أين تصبُّ كلُّ خطوة عملية نِزاعيَّة في منحنى الخطِّ البياني المتجه، حثيثا، نحو أمهات المسائل المُوحِّدة: القدس واللاجئين والأرض التي تُقضَم؟ وهل تُعاد إلى الحالة الفلسطينية عافيتُها، بالتفاتٍ فعليّ للأجيال الفلسطينية الشابَّة، باجتراح نماذج وطنية رافعة، على مستوى الوعي والشعور الجمعي؟
أسامة عثمان