دولي

الشهيد فادي البطش يوم جنازته.. بنيتي دعاء .. هذا والدك

القلم الفلسطيني

أيتها الطفلة الجميلة...بعد ظهر اليوم اجتمع آلاف المصلين من أنحاء مختلفة من ماليزيا لأداء صلاة الجنازة على والدكِ الحبيب، توافدوا إلى مسجد إيدمان بالقرب من مكان سكناكِ حيث اعتاد والدكِ أن يؤم المصلين في صلاة الفجر ويعتكف فيه يومياً ما بين المغرب والعشاء يحفّظ القرآن للناشئة من الماليزيين وأبناء الجاليات العربية والإسلامية.

كان الموقف بنيتي مهيباً للمرة الأولى في ماليزيا، حيث اعتاد الماليزيون من قبل على الحزن والحداد في مثل هذه المواقف، وتؤدّى جنائزهم بصمت وخشوع، ويقتصر الحضور على أقرباء المُتوفّى وأصدقائه فقط، فكانت تلك تجربة صادمة لهم بحسب تعابير وجوههم، إلا أنها في الوقت ذاته أمدّتهم بشعورٍ مختلف من القوة والدافعية، فلم يسبق لهم الخروج في تشييع جنازات الشهداء، ولم يروا طاقة فولاذية منبثقة وحيوية ملموسة من المشيّعين كما الأمر لدى محبي والدكِ من الفلسطينيين –حسب وصف السيدة عذراء بانو صديقة والدكِ المرحوم- فضلاً عن شعورهم المفعم بالعاطفة الملتهبة والمشاعر الجيّاشة تجاه والدك.

هل تعلمين حبيبتي دعاء أن جنازة أبيك الحاشدة أضافت تجربة فريدة لي أيضاً، رغم أنني شاركت في تشييع عشرات الشهداء  في غزة إلا أنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها لوحة فنيّة تُرسم فيها معالم فلسطين من بحرها إلى نهرها، إذ رأيت فيها المقدسيين، وأبناء الضفة المحتلة، وطلبة العلم من غزة الأبيّة، وفلسطينيي الشتات من سورية ولبنان والأردن والسعودية والكويت، ومن كل أصقاع الدنيا، تقاطروا ليرفعوا علم فلسطين عالياً، لقد وحّدتهم دماءُ أبيكِ الزكية بعد أن قطّع المحتلُّ أواصرها والتهم معظم أراضيها.

وفي مشهد نادر من الجنازة رأيت المشيعين من مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي، من شمال إفريقيا، وإفريقيا الوسطى، من السودان، من مصر، من الصومال، من جيبوتي، من غانا، من أوغندا، من نيجيريا، من تركيا، من دول الخليج العربي، من إيران، من الهند والباكستان، من إندونيسيا، من جزر موريشيوس وجزر القمر، من الصين وأوزباكستان، من كل بلاد الدنيا... جاءوا على صعيد قلب رجل واحد مكبرين مهللين، داعين لأبيك بالرحمة والمغفرة والرضوان، ولفلسطين الحبيبة أن تكون محرّرة عزيزة كريمة. لقد تزاحموا غير آبهين لينالوا شرف حمل أبيك الشهيد على رقابهم ليرسلوه من المسجد بعد صلاة الجنازة إلى عربة النقل التي ستقلّه إلى مطار العاصمة كوالالمبور.

أدرك يوماً عند قراءتكِم هذه السطور أنكم لن تتذكروا تلك المشاهد رغم أنّكم جميعاً ولدتم في ماليزيا وغادرتموها وأنتم في زُهاء السابعة، الخامسة، سنة ونصف من عمركم على التوالي، لذا وجبَ عليّ أن أصف لكم المشهد حتى لا يذهب طيّ النسيان. ذهب المشيّعون يحملون جثمان أبيكم الطاهر في تابوت مخصص لنقله متجهين إلى مطار العاصمة الماليزية كوالالمبور برفقة الأحبّة الكرام من أبناء فلسطين، غادروا في حوالي الساعة الثانية ظهراً -مبكرين- لأن جثمان والدكم يحتاج لبعض الإجراءات الإدارية، بينما بقيت أنا وأخي الحبيب رائد قدورة وبعض رفاق والدكِ وأحبائه لكي نؤدي واجبنا نحو أسرتكم – أنتم ووالدتكم الصابرة المحتسبة- والعناية بكم، توجهنا صوب المنزل فوجدنا جموع السيدات صديقاتِ الوالدة الكريمة لا زلن هناك، كُنّ في وداعكم وعيونهن تجهش بالبكاء.

كان برفقتنا الدكتور موسى نور الدين صديق العائلة المقرّب وزوجته وبعض النسوة الماليزيات، طلبوا لقاء الوالدة لوداعها، وكانت لحظات قاسية إذ لم يتمالك أيًّ منا نفسه، إذ حضَرَنا طيفٌ سريعٌ من الذكريات التي جمعتنا معاً بأسرة كل واحد منّا، إذ اعتاد الدكتور موسى على سنّة حميدة بتخصيص يوم معين من رمضان منذ سنوات تجتمع فيه أسرنا للإفطار معاً وأداء صلاة التراويح وكان والدكم يؤمنا بصوته الندي في كل مرّة، أجهشت أرواحنا قبل عيوننا بالبكاء ولسان حالنا يقول من سيمتعنا بصوته الندي في رمضان المقبل الشهر القادم! نعم لقد بدأنا نشعر بالفقد.

في اللقاء ذاته طلب الدكتور موسى رؤيتكم لينعم بلحظة وداع، ويقبلكم هو ومن معه من صديقات الأسرة، جيء بكم وكانت المفاجأة والصدمة الأخرى وعادت قريحة البكاء من جديد.. رأيناكما طفلتين جميلتين بارقتين كالبدر في السماء تلبسان أجمل الحلل استعدادا للسفر لملاقاة الأهل في غزة، أما محمد فقد حاول عضّ أسيل من يدها وكأنه يرسل لنا رسالة بألا تحزنوا، أنتم هنا في حضرة ولي العهد، لم يقوَ الدكتور موسى على الوقوف صامداً من قسوة الموقف، قبلوكم بكل حب ثم انصرفوا.

حانت لحظة الفراق والتوجه إلى المطار، كانت لحظات مفعمة بالحزن ومليئة بدموع صديقات الوالدة اللواتي عايشنها في الغربة لمدة سبع سنين، انطلقنا معاً صوب المطار، وما أن ولجناه حتى وجدنا أصدقاء الأسرة مع زوجاتهم وأبنائهم من أقرانكم حتى أخذتم تلهون وتلعبون بكل براءة ووداعة. وما أن دقت ساعة الصفر وساعة الفراق المؤلمة متجهين إلى إدارة الجوازات، ومن ثم إلى الطائرة حتى بدأت مرحلة جديدة من زرع الأشواك والوجع والألم في وداعكم.

وما أن دقت لحظة الصفر، وأقلعت الطائرة، حتى انتاب شعور بالفراغ أرجاء المطار، أدركت حينها أننا عبرنا مرحلة جديدة من الزمن، فلم يعد أبوكم موجوداً، أمسينا بدونه، طار محلقاً جثمانه معكم في السماء صوب فلسطين عبق الوحي وأريج النبوة، حيث الأرض المقدسة التي سيحتضن ترابها الدافئ جثمانه الطاهر.

عبد الرحيم شهاب

 

من نفس القسم دولي