دولي

النشاط الفلسطيني الغائب في الإعلام الغربي

القلم الفلسطيني

مثّلت تغطية عدّة وسائل إعلام غربيّة لأحداث مسيرة العودة في قطاع غزّة، الأسبوع الماضي، كشفًا لازدواجيّة المعايير المهنيّة عندما يتعلّق الأمر بالقضيّة الفلسطينيّة. الفلسطيني سيبقى طرفًا مسببًا "للعنف" حتى لو خرج بمظاهرات سلميّة، وأراد أن ينتظم في اعتصام طويل من أجل حقوقه وتحرره، فالاقتراب من حدود السجن المرسومة له سببٌ كافٍ لتصبح التغطية على شاكلة "اشتعال المواجهات على حدود غزة إسرائيل".

هذا ما طالعتنا به بعض الصحف والمواقع مثل الـ"بي بي سي" التي اختارت تبني الرواية الإسرائيليّة نقلًا عن جيش الاحتلال كجزء أساسي من المصادر التي اعتمدت عليها في الخبر الرئيسي للحدث، وإعطاء بيانات الجيش مساحة كبيرة في ظل غياب للصوت الفلسطيني، كذلك الأمر مع "نيويورك تايمز" التي أطّرت الحدث من خلال تحميل الفلسطينيين مسؤولية اندلاع أعمال العنف بطريقة غير مباشرة بسبب اقترابهم من الحدود.

لا يكون الانحياز في التغطية الإعلاميّة غالبًا مكشوفًا ومباشرًا، لأنه سيكون مفضوحًا ومعروفًا؛ لكنّه يجري بطرق أخرى من خلال -مثلًا- ادّعاء الموضوعيّة في التغطية، وإبراز موقف الطرفين، ليستوي في ذلك المُستعمِر والواقع تحت الاستعمار على نفس المعايير في التعامل.

وتحت ذريعة الموضوعيّة أيضًا؛ يُصبح نقل تصريحات من قادة حماس حول مسيرة العودة، وتغييب صوت المنظّمين من الحراك المدني والشبابي -كما فعلت الـ بي بي سي- أمرًا مهنيًّا؛ لأنه وضع "الصوت الفلسطيني" الممثل لأحد أطراف الصراع. هذا يترافق أيضًا مع تقسيم الخبر والمساحة لكل "طرف"، والشكل الذي يظهر فيه كل "طرف" من خلال الصور أو العناوين.

لا يمكننا فصل هذه التأطيرات التي يُوضع فيها الفلسطيني في الإعلام الغربي المركزي والليبرالي، بعيدًا عن الحمولة الثقافيّة الاستشراقيّة التي ما زال يحملها شريحة واسعة من النخب في الغرب تجاه الشرق الأوسط (وهي تسمية أطلقها الغرب علينا) والتي تعززت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، منها تصوير الشرقي بشكل غاضب ومُلثّم دون إفهام ما سبب هذا الغضب، كما جرى لمسيرة العودة، بينما الإسرائيلي "المتحضّر" والنظيف الذي يُدافع عنه حدوده من هؤلاء "المتّسخين" الذين يحرقون الإطارات ويرمون الحجارة.

على الرغم من تغيّر شكل وسائل الإعلام في العقد الأخير في مرحلة وسائل التواصل الاجتماعي، وكسر هيمنة وسائل الإعلام التقليديّة في الهيمنة على صناعة الخبر وترويجه، لا يُمكن تجاهل هذا التأطير الذي يحصل في مواقع وصحف وفضائيّات تؤثّر في صناعة الرأي العام.

هناك ضرورة لتفعيل هيئات رصد لوسائل الإعلام العالمية وكيفيّة تناولها للقضية الفلسطينيّة؛ ومتابعة هذا الموضوع بشكل متخصص، الذي يتطلّب نشاطا يفضح التزييف أو الانحياز الحاصل، من خلال حملات إعلاميّة أو توجيه رسائل احتجاج لوسيلة الإعلام والصحافيين العاملين فيها، وتشكيل ضغط مستمر مع المناصرين في تلك الدول للقضيّة الفلسطينيّة بهدف تغيير شكل التغطية الإعلاميّة الحاصلة، حتى تُعيد وسائل الإعلام هذه حساباتها في المستقبل.

في ظلّ غياب هذه الهيئات والمبادرات الفلسطينيّة بشكل منظّم، تنشط في المقابل العديد من المؤسسات واللوبيّات الصهيونيّة حول العالم مستهدفة وسائل الإعلام بشكل خاص بهدف ترجيح كفّة التغطية للرواية الإسرائيليّة وملاحقة الصحافيين الذين يناصرون الفلسطينيين، وهم يحققون إنجازات في ذلك.

كان لنشاط حركة المقاطعة ضد "إسرائيل" حول العالم، في العقد الأخير، إنجازات عظيمة جدًّا في تحقيق مقاطعة مؤسسات وشخصيّات وشركات لـ"إسرائيل"، وهي اعتمدت بالأساس على أسلوب الرصد والمكاتبة والضغط. هناك حاجة لتفعيل حراك يستهدف وسائل الإعلام بشكل حصري، يعتمد على بناء شبكة واسعة من الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام والناشطين والمناصرين الذين سيعملون على متابعة ورصد ما يُنشر في وسائل الإعلام حول القضيّة الفلسطينيّة، ليشكّلوا بدورهم ضغطا على من يُشوّه صورة نضال الفلسطينيين وحقّهم في التحرر من النظام الاستعماري القائم في فلسطين.

لم تحتمل عقلية الاحتلال القائم على كم مهول من سردية التدليس والتزييف للتاريخ كاميرا إضافية تعيد تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقة، فالضحية هي الضحية، والجلاد هو الجلاد، دون أية إضافات.

كاميرا أخرى لفارس آخر من فرسان معركة الحقيقة، ترجل في أثناء جولة من جولات حربه غير المتكافئة، فمن منا يستطيع أن يتخيل معركة أحد طرفيها صحفي يحمل الكاميرا بإرادته التي يؤمن إيمانًا عميقًا بأنها تضاهي رصاص الاحتلال، وربما طائراته العسكرية الأكثر فتكًا وحداثة في العالم؟!

حين نمعن النظر في صور أنتجتها كاميرا "ياسر مرتجى" أكثر نوقن بأن الاحتلال يرى إطار عدسته فوهة مدفع قادر على أن يقلب الموازين في الميدان، وربما من شأنه أن يحسم المعركة.

كان "مرتجى" فارسًا متمرسًا في المعركة الرامية إلى الحفاظ على القضية الفلسطينية حية، عبر ميادين الإعلام، فقد رافق بعدسته قوافل كسر الحصار عن غزة، ومنها قوافل "أميال من الابتسامات" خلال سنوات مضت، ليكون شاهدًا على عظمة الإنجاز الإنساني، ولينقل هذه الشهادة إلى العالم بأسره، ولتتآلف قلوب الفرسان (مرتجى والمتضامنين الإنسانيين مع غزة) من أجل قضية أجمعت على عدالتها تشريعات السماء والأرض.

رحل "مرتجى"، رحمه الله، شهيدًا في سبيل الله، جاد بدمائه من أجل الأرض والعرض والمقدسات، وشاهدًا، حاول بجد ألا تغفل عينه عن رصد وقائع الجريمة وحيثياتها، ليقدّم للعالم صورة المجرم سارق الأرض والمقدسات والهوية والثقافة، وقاتل الأطفال والشيوخ والنساء والعجَزة كما هي، بما تحمله من بشاعة وقبح، "مرتجيًا" بذلك أن تطالع صوره عيونًا أمينة، تنصف شعبه الضحية، وتحاكم عدوه الجلاد.

ربيع عيد

 

من نفس القسم دولي