دولي
غزة التي لم يبتلعها البحر
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 09 أفريل 2018
اصطفّ القنّاصة على التل، وباشروا استهداف الفتية العزّل واحدا تلو الآخر. بدا المشهد مثل رحلة صيد ببنادق آلية، تنتهي بارتماء الفرائس أرضا، بمجرد أن تخترق الرصاصات رؤوسها. مئات الإصابات في سويعات قليلة، من بينها قرابة عشرين ضحية فارقت الحياة. لم يكن أي من هؤلاء مسلّحا، ولم يشكِّلوا أي خطر على الجنود المدججين بالسلاح.
حملت المقاطع مشاهد الفتك الوحشي بفتية فلسطينيين استهدفهم قناصة الجيش الإسرائيلي من الخلف لدى فرارهم من النيران المصوّبة نحوهم. جاءت المذبحة المصممة بعناية من القيادة الإسرائيلية لاحتواء مسيرات سلمية كبرى، قرّر اللاجئون الفلسطينيون التحرّك بها على مدار أسابيع متواصلة للمطالبة بحقوقهم، بدءا من الثلاثين من آذار/مارس 2018.
شاهد العالم ما جرى في ذلك اليوم. فقد خرجت أجيال فلسطينية بمئات الألوف في قطاع غزة، لإعلان تمسّكها بحقوقها في المدن والبلدات التي سلبها الاحتلال الإسرائيلي منها سنة 1948. ففي هذا القطاع يشكِّل اللاجئون الأغلبية ضمن سكانه الذين يتجاوزون مليوني نسمة، وهم يعيشون في حالة اكتظاظ شديد ضمن المنطقة المعزولة عن العالم والمحرومة من فرص العيش. وقد سبق للأمم المتحدة أن أعلنت أنّ القطاع لن يغدو في سنة 2020 صالحا للعيش، بسبب شحّ الموارد والافتقار حتى إلى المياه الصالحة للشرب والخدمات الأساسية.
لا حاجة لأن يبتكر العالم حلولا معقدة بالنسبة لمنطقة مُحاصَرة ويشكِّل اللاجئون معظم سكانها، فالخيار العملي متاح وفي متناول اليد؛ بتمكين هؤلاء البشر من استعادة بيوتهم وأراضيهم ومواردهم التي سيطرت عليها القوات الإسرائيلية بالقوة ضمن واحدة من عمليات التطهير العرقي القاسية التي عرفها القرن العشرون. تمتنع السلطات الإسرائيلية منذ ذلك الحين عن الامتثال للحقوق والعدالة والمواثيق الدولية، وترفض الانصياع لقرارات صادرة عن الأمم المتحدة؛ ومنها قرار الجمعية العامة رقم 194 لسنة 1948.
لم يقبل الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بالتنازل عن حقوقه حتى الآن، ولا يبدو أنه سيقبل بذلك تحت أي ظرف، فلم تنجح محاولات إرغامه على التخلِّي عنها طوال سبعة عقود بعد النكبة (1948). دفع هذا الموقف الشعبي الفلسطيني الصارم كبار القادة الإسرائيليين إلى تمنّي الهلاك الجماعي لسكان القطاع، الذين يتزايدون أمام أعينهم ويتنامى إصرارهم على استرجاع الحقوق وخوض الانتفاضات الشعبية، حتى اشتهرت عن رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين أمنيته بأن يصحو ذات صباح ويجد قطاع غزة قد غرق في البحر. لكنّ رابين خرج من المشهد برصاصات متعصِّب إسرائيلي، وبقيت غزة على إصرارها المتعاظم عاما بعد عام.
لم تتحقق أمنية الغرق، لكنّ القيادة الإسرائيلية عملت بهدوء على إغراق قطاع غزة في الظلام بالتسبّب في قطع الكهرباء معظم الأوقات، وإغراقه في الأوجاع الصحية بتقييد الإمدادات الطبية اللازمة وعرقلة العلاج في الخارج للحالات المستعصية، كما أغرقت القطاع في المتاعب الاقتصادية والاجتماعية بالحصار المزمن الذي تفرضه عليه. من الواضح أنّ نبوءة الأمم المتحدة عن عدم صلاحية القطاع للعيش البشري، ماضية إلى التحقق أو لعلها أصبحت أمرا واقعا قبل أوانها.
لكنّ المذهل في الموقف، هو أنّ الشعب الفلسطيني لم يعلن اليأس بعد، كما لم يتنازل عن حقوقه، بل أرسل رسالة تحدٍّ وإصرار واضحة للاحتلال الإسرائيلي وللعالم أجمع في "مسيرة العودة الكبرى"، التي بدأت فعالياتها السلمية يوم الثلاثين من آذار/مارس 2018، الذي وافق "يوم الأرض"، وهو مناسبة سنوية يكرِّسها الفلسطينيون في كل مكان منذ عام 1976 لإعلان التمسّك بأرضهم ورفض التفريط بها.
بدا مشهد المسيرة في يومها الأول مهيبا للغاية، فقد خرج الشعب الفلسطيني بكل أجياله ليصنع الحدث الجماهيري، ولدى كل منهم حكايته. اكتشف العالم صورة الصبي محمد عياش، الطفل الذي ينحدر من أسرة لاجئة من يافا، والذي خرج في المسيرة مع جماهير اللاجئين وصمّم ابتكاره الخاص للاحتماء من الغازات التي يطلقها الجيش الإسرائيلي. كان القناصة الإسرائيليون يصطادون الفلسطينيين العزّل بسهولة، بينما تقوم طائرات صغيرة دون طيار بقصفهم بقنابل الغاز. جلس محمد عياش القرفصاء مع نظرة تحدٍّ، غير عابئ بالغازات من حوله، فابتكاره يكبح تأثيرها على الجهاز التنفسي من خلال كمّامة على وجهه تضمّ فسيلة من البصل الأخضر. يعطِّل هذا الابتكار البسيط مفعول الغازات، وقد استلهمه الصبي من خبرة والده عندما كان في مثل سنه خلال الانتفاضة التي اندلعت قبل ثلاثين سنة، فيومها استعمل الفلسطينيون البصل أيضا للوقاية من تأثيرات الغاز.
هكذا يلجأ الفلسطيني إلى خياراته البسيطة من أرضه التي يتشبّث بها، كي لا ينكسر أمام استعلاء الاحتلال الإسرائيلي الذي يسخِّر تقنيات العالم المتطورة لتعزيز السيطرة والعدوان والترهيب. تتوارث الأجيال الفلسطينية خبراتها في تحدي الاحتلال، رغم أفواج التضحيات التي قدّمتها في سبيل الحرية عبر الانتفاضات المتعاقبة، وصولا إلى "مسيرة العودة الكبرى" وما بعدها.
إنْ شاهَد بعض الوزراء في حكومة نتنياهو صورة "صبي البصل" القادمة من تخوم غزة؛ قد يعترفون معها أنّ التاريخ لم ينتهِ بعد في فلسطين، وأنهم سيواجهون مزيدا من الصداع مع جيل التحدي الفلسطيني الجديد هذا. قد يسترجع هؤلاء المتغطرسون أمنية رابين مجددا؛ بأن يستيقظوا ذات صباح على الخبر العاجل .. بأنّ غزة قد ابتلعها البحر.
حسام شاكر