دولي

إسرائيل والحكم الاستعماري غير المباشر

القلم الفلسطيني

شهدت الآونة الأخيرة توسعاً في الحديث عن مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية ما بعد رئيسها محمود عباس، أو مستقبل المناطق الفلسطينية المحتلة ما بعد السلطة. وترافق ذلك مع عدة سيناريوهات قديمة – متجدّدة، تداولتها ومارستها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وباتت موضوعاً رئيسياً على أجندة اليمين الإسرائيلي بشأن مستقبل التعامل مع المناطق المحتلة عام 1967 وسكانها. ومما تم طرحه أخيرا هو ضم مناطق ج في الضفة الغربية، وذهب بعضهم إلى حد الضم الكامل للضفة الغربية، مع منح السكان بعض التسهيلات المدنية للحركة والعمل داخل المناطق المحتلة عام 1948، مع إبقاء شكل محدد للحكم المحلي، يستند إلى تقوية الروابط العشائرية التقليدية والولاءات تحت - الوطنية في إدارة البلديات، وربطها بالإدارة المدنية الإسرائيلية. 

تاريخياً، برعت بريطانيا، وإلى حد أقل فرنسا، في حكم مستعمراتهما المترامية الأطراف في أفريقيا وآسيا، عن طريق تبني نماذج الحكم الاستعماري غير المباشر. استند هذا النموذج، بشكله الكلاسيكي، على تكريس سلطات المؤسسات التقليدية في المستعمرات، وإخضاعها بشكل مباشر لسياسات الحكومة الاستعمارية، بدون الحاجة إلى وجود بيروقراطيات وقوات عسكرية واسعة النطاق، ما دامت القوى الاستعمارية قادرةً على تمرير قراراتها وسياساتها بدون معارضة من الحكام المحليين. أمنياً، تم تشكيل قوة شرطية محلية مدربة من السلطات الاستعمارية من أجل فرض الاستقرار الداخلي، وحماية النخب المحلية، وضمان استمرار الأوضاع. أما اقتصادياً فقد ظهرت نخب اقتصادية محلية مرتبطة عضوياً بالنظام الاقتصادي الاستعماري. وبعد بروز الهويات الوطنية وحركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار، قامت هي الأخرى بتحدي ومقاومة هذه البنى السياسية والاقتصادية والأمنية التي شكلت امتداداً مؤسساتياً محلياً للحكم الاستعماري. 

ومنذ فترة مبكرة للاحتلال الإسرائيلي ما تبقى من فلسطين التاريخية بعد العام 1967، دأبت حكوماتها على وضع استراتيجيات ورؤى مختلفة، هدفت إلى فرض نموذج الحكم الاستعماري غير المباشر. كان الهدف الأساسي، وما زال، هو التخلص من الحكم المباشر للمناطق كثيفة السكان مع الحفاظ على أكبر قدر من الأراضي. وبالتالي، تخفيف الأعباء المادية المرتبطة بالخدمات المدنية والتقليل من حدة المواجهات من السكان، ومن ثم التفرغ لترسيخ البنية الاستعمارية والتوسع في بناء المستوطنات بأقل قدر من التهديدات الداخلية. 

وفي البدايات، أقنع وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه دايان، الحكومة الإسرائيلية بتبني سياسة "الجسور المفتوحة"، والتي استندت على مبدأ "الإدارة الذاتية" لسكان المناطق، والسماح لهم باستمرار العلاقات التجارية والاجتماعية مع الأردن، مع وضعهم تحت الرقابة المباشرة لسلطات الاحتلال. كان الغرض المباشر لسياسة الجسور المفتوحة عدم التدخل المباشر في شؤون السكان، والتقليل من الاحتكاك المباشر بين الجنود الإسرائيليين والسكان الفلسطينيين، بهدف التخفيف من الاستفزازات التي قد تساهم بإشعال الأوضاع والهبات الشعبية المناهضة للاحتلال. وبحسب دايان نفسه، هدفت هذه السياسة إلى تثبيت المرحلة الأولى للاحتلال، وتحويله إلى "استعمار غير مرئي". وفي الفترة نفسه تقريباً، وضع وزير العمل الإسرائيلي، يغال آلون، رؤيةً عرفت بـ "خطة آلون"، وهدفت إلى ضم أكبر مساحة ممكنة من الأراضي المحتلة، بما في ذلك منطقة الأغوار، والتخلص من العبء السكاني، عبر تصميم نموذج للحكم الذاتي، تحكمه نخب تقليدية مهادنة للبنية الاستعمارية، على أن يتم ضمها في وقت لاحق للأردن. 

ومع ازدياد تأثير منظمة التحرير الفلسطينية داخل المناطق المحتلة في السبعينات، لجأت سلطات الاحتلال إلى اختراق الهياكل العشائرية الإقطاعية في بعض المناطق الريفية، وأسست لظهور شبكة من العملاء المحليين، عرفت في ذلك الحين بـ "روابط القرى"، وتم ربطهم لاحقا بالإدارة المدنية في المناطق المحتلة. ومن أجل ضرب نفوذ الحركة الوطنية الفلسطينية، قدمت الإدارة المدنية الإسرائيلية الدعم المادي والإعلامي والسلاح لمليشيات روابط القرى. ومن ناحية أخرى، تم وضع روابط القرى مرجعا أساسيا لتلقي الخدمات الأساسية للسكان. وفي حال عدم رضوخ الجماهير لمطالب روابط القرى كان يتم استهدافهم بالأسر والتهديد بقوة السلاح، ومنع الخدمات عنهم، سواء كانت تصريحا للبناء أو التجارة أو السفر أو حتى رخص قيادة السيارات. قدمت سلطات الاحتلال روابط القرى بديلا لمنظمة التحرير، وترويج أنهم شركاء محليون قادرون على القيام بمفاوضات سياسية، تنتهي بحكم ذاتي، يكون مرتبطاَ بشكل مباشر ببنية النظام الاستعماري الإسرائيلي. إلا أن أغلبية الفلسطينيين رفضوا التعاون مع روابط القرى، وتعاملوا معها كأنها جسم عميل يمثل مصالح الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت هدفاً شرعياً لخلايا المقاومة. ولهذا السبب، مثلت روابط القرى تجربة فاشلة لفرض نموذج للحكم الاستعماري غير المباشر، ما أدى بسلطات الاحتلال إلى حلها نهائياً مع بداية الانتفاضة الأولى. 

ولا شك في أن إسرائيل نجحت في فرض نموذج للحكم الاستعماري غير مباشر، منذ توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994. وما يجعل هذا النموذج أكثر فعالية من سابقيه، وأكثر نجاحاً من النماذج الكلاسيكية التي تبنّاها الاستعماران، الإنجليزي والفرنسي، هو احتواء منظمة التحرير الفلسطينية، وتحويلها مؤسسة محلية تخدم وظيفة الحكم غير المباشر تحت مسميات "بناء الدولة" أو "المشروع الوطني" أو "الحكم الذاتي". فمنذ أكثر من ربع قرن، اعتمدت السلطة الفلسطينية في بقائها واستمراريتها على توثيق قنوات التنسيق الأمني والاقتصادي والمدني مع سلطات الاحتلال، والقيام بمهام تخدم مصالح النظام الاستعماري، وتناقض بشكل تام بديهيات حركات التحرر الوطني. استندت بنية السلطة الفلسطينية وتركيبتها على إعادة تعريف القيادة الوطنية، عبر تحويلها إلى نخبة سياسية واقتصادية وأمنية ذات مصالح مرتبطة عضوياً باستمرار الأوضاع الراهنة، كما أنه تم إيجاد شبكات معقدة من العلاقات الزبائنية والمصلحية التي امتدت لتشمل فصائل "معارضة" عديدة، وشرائح مجتمعية مختلفة، تخشى التغيير والتعبير عن معارضتها بشكل فعال للمسار القائم منذ توقيع اتفاقيات أوسلو.

تتمثل الطريقة الوحيدة لمواجهة مشاريع إسرائيل المستقبلية بشروع الفلسطينيين في إعادة هيكلة مؤسساتهم الوطنية ضمن استراتيجية تحرّرية تسعى إلى تقرير المصير، وتعتمد مبادئ المقاومة والاشتباك، وهذا هو المنطق الأمثل والقادر على إفشال ما تضمره إسرائيل، كما أثبتت التجربة الفلسطينية في فترة ما قبل أوسلو.

طارق دعنا

 

من نفس القسم دولي