دولي

في القراءة الإسرائيلية لمسيرة العودة

القلم الفلسطيني

اعتبر مراقبون أن إسرائيل تغالي كثيراً، إلى درجة التهويل، في التعبير عن القلق والخوف من "مسيرة العودة وكسر الحصار"، حتى قبل انطلاقها بأسابيع، بسبب عدم فهمهم معنى المسيرة التكتيكية وتداعياتها الاستراتيجية من وجهة نظر إسرائيلية، حيث بدأت إسرائيل، منذ أسابيع، بحملة إعلامية ضخمة، شاركت فيها كل الأجهزة الأمنية والسياسية والإعلامية، بالتحذير من المشاركة في المسيرة، عبر التهديد باتخاذ إجراءات قاسية، في حال انطلاق المسيرة ووصولها إلى الحدود التي تعزل قطاع غزة عن الأراضي المحتلة في 1948. وهذا ما حدث بالضبط، عندما واجهت دبابات وطائرات إسرائيلية وآلاف الجنود والقناصة عشرات الألوف من الفلسطينيين العزّل الذين تجمعوا في خمسة مواقع، أقيمت على طول الجدار المحيط بالقطاع، ما أدى إلى ارتقاء 16 شهيدا، وإصابة نحو 1500. ما يكشف عمق الأزمة التي شكلتها مسيرة العودة لإسرائيل، خصوصا أن كل محاولات منع المسيرة أو الحد من المشاركة الشعبية فيها فشلت فشلا مدويا، على الرغم من أن إسرائيل لم تترك وسيلة لتخويف غزة، وحركة حماس، إلا واستخدمتها، بدءا من التهديد على لسان وزير الإسكان الإسرائيلي، يوأف غالانت، باغتيال قائد حركة حماس في قطاع غزة، يحيى السنوار، والذي رد على التهديد بأن كان في مقدمة المسيرة، برفقة عائلته، مرورا بتهديد شركات النقل العام من نقل الغزيين الراغبين بالمشاركة، وتخويفهم بالعقوبات، وإلغاء تصاريحهم، وأيضا باستخدام وسائل الحرب الإلكترونية، عندما اخترقت وحدة السايبر الأمنية الإسرائيلية حسابات آلاف الفلسطينيين في قطاع غزة على مواقع "فيسبوك" و"تويتر"، وقاموا ببث ونشر منشورات، وإشعارات عن تغيير مواقع المسيرة، لإرباك القائمين والمشاركين على المسيرة، إضافة إلى مئات آلاف من الرسائل النصية التي تم إرسالها إلى الأجهزة الخلوية في قطاع غزة، والتي تتوعد كل من يشارك في المسيرة بالموت. 

وليس آخرها قيام وزارة الخارجية الإسرائيلية بحملة تشويه المسيرة وشيطنتها، عبر سفارات إسرائيل في العالم، بغرض إضعاف التضامن العالمي مع المسيرة، والحصول على غطاء دولي لقمعها، بادعاء أنها ستؤدي إلى حرب كبيرة، وأن حركة حماس تنوي استغلالها لإدخال خلايا مسلحة، للقيام بعمليات عسكرية لقتل وخطف إسرائيليين. 

ما عمّق من قلق إسرائيل وخشيتها من المسيرة أنها تزامنت مع الذكرى الثانية والأربعين لأحداث يوم الأرض الخالد في 1976، في مناطق المثلث والجليل في أراضي 1948، حين فتحت القوات الإسرائيلية النار على متظاهرين فلسطينيين خرجوا في مظاهرات احتجاجية على مصادرة أراض في بلداتهم، ما أدى إلى استشهاد ستة منهم، وإصابة عشرات، فلا تريد إسرائيل خروج مظاهرات ومسيرات معا من مختلف التجمعات الجغرافية، لأن سياساتها مبنية على تقسيم الشعب الفلسطيني وتفكيكه، وإحداث تغييرات وتبدلات في أولويات التجمعات الفلسطينية، لمنع الشعب الفلسطيني من بناء رواية وطنية جامعة للكل الفلسطيني، في كل أماكن وجوده. ولكن ما حدث أنه عكس ما تعمل إسرائيل على تحقيقه، فمع انطلاق مسيرة العودة وكسر الحصار من غزة، شهدت مختلف أنحاء فلسطين التاريخية مظاهرات ومسيرات، في النقب والمثلث والجليل، كما في الضفة الغربية، إضافة إلى مسيرات في لبنان، لتتشكل بذلك نقلة جديدة ونوعية في النضال الوطني الفلسطيني، وفي معركة الأجيال الفلسطينية، جيلا بعد آخر، والذي يؤكد عمق انتماء هذه الأجيال لأرضها ووطنها، حتى التي لم تولد في فلسطين، ولم يرها نهائيا. 

أكثر ما تخشاه إسرائيل أن تؤدي مسيرة العودة في قطاع غزة إلى إعادة تصويب المسار الوطني الفلسطيني، وتراجع حدة التناقضات والمناكفات الداخلية بين حركتي فتح وحماس، والعودة إلى التناقض الحقيقي مع الاحتلال، وتحويل فكرة حق العودة إلى ثقافة ووعي جمعاني فلسطيني، بعد سبعة عقود من النكبة والتهجير واللجوء، خصوصا أن أغلبية المشاركين في المسيرة هم من أحفاد جيل النكبة الأول، بالتزامن مع محاولات الولايات المتحدة وإسرائيل فرض صفقة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والتي تتضمن تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، بتوطينهم في الدول التي يقيمون فيها، أو بنقل بعضهم إلى قطاع غزة، بعد ضم أجزاء من سيناء إليه، لتأتي مسيرة العودة، وتتجه الجماهير الفلسطينية صوب أراضي فلسطين عام 1948، لتكون رسالتها إلى الإسرائيليين أن هذه أرضنا، وليست أرضكم، وإن حصلتم على شرعية الأميركي وبعض العرب. نحن أصحاب القضية والقرار، ولا شرعية لكم في وطننا، وسنعود مهما طال الزمان، ومهما قست الظروف وبلغت التضحيات. 

كشفت المجزرة الإسرائيلية ضد مسيرة العودة عن خوف وقلق إسرائيلي كبير من أية مظاهر سلمية وشعبية للنضال الفلسطيني الذي سيفشل حكومة الاحتلال اليمينية من الاستمرار في سياسة تخويف المجتمع اليهودي من الفلسطينيين، ومن إقناعه بعدم وجود شريك فلسطيني يستحق التفاوض معه. وبالتالي، يستمر المجتمع اليهودي في دعم اليمين ورئيسه بنيامين نتنياهو، إضافة إلى مصلحة نتنياهو في التصعيد الأمني والميداني مع الفلسطينيين، في محاولة منه لإعادة الملف الأمني إلى السطح، في ظل شبهات الفساد والتحقيقات التي يتعرّض لها، هو وأفراد عائلته، كما أن إسرائيل تخشى من تزايدٍ في حملة التضامن الدولية للشعب الفلسطيني، في حال تصاعد المقاومة الشعبية السلمية، وحملات المقاطعة التي تتعرّض لها إسرائيل في العالم. 

على الرغم من سقوط الشهداء، وإصابة أكثر من 1500 فلسطيني، وعدم إصابة أي إسرائيلي، إلا أن دولة الاحتلال عاشت في حالة توتر شديد، حيث الموجات الإذاعية المفتوحة والمباشرة، وكأن حربا ضروسا تحدث، مما دفع إسرائيليين كثيرين في المستوطنات المحيطة بقطاع غزة إلى مغادرتها، لقضاء عطلة عيد الفصح بعيدا عن غزة. كما فرضت مسيرة العودة على آلاف الجنود الإسرائيليين البقاء في وحداتهم العسكرية على مشارف القطاع، وأن يبقوا بعيدين عن أسرهم في العيد، الأمر الذي يعيد طرح القضية الفلسطينية إلى الحراك الإسرائيلي، بعد أن غابت القضية الفلسطينية عن النقاش، والحراك العام الإسرائيلي، وأصبح الاحتلال رخيصا وغير مكلف نهائيا، ما حدا بكبار القادة العسكريين والسياسيين إلى أن يعبروا عن قلقهم وخوفهم الحقيقي من أن مسيرة العودة قد تشكل محطة للعودة إلى النضال الوطني الفلسطيني. وما مشاركة عشرات آلاف الفلسطينيين في المسيرة، على الرغم من كل أشكال التخويف والتهديد، إلا فشلا في سياسة كيّ الوعي الفلسطيني، وأن مرحلة السنوات الماضية من غياب العمل الجماعي المنظم، وما رافقها من تراجع كبير في الفعل والمد الثوري الشعبي التحرّري، وتحييد الشارع الفلسطيني عن المواجهة قد اقتربت من نهايتها. والانتقال إلى مرحلة جديدة من النضال الوطني، وجعل الاحتلال يدفع ثمن احتلاله واستيطانه، واستنزافه عسكريا واقتصاديا، ما سيربك خطط الاحتلال بالتصعيد العسكري على الجبهات المختلفة، وخصوصا الشمالية، بعد أن كشفت مسيرة العودة مدى الإرباك والتخبط الذي أصاب المؤسسة العسكرية والأمنية في إسرائيل، وأنها غير قادرة على مواجهة عدة جبهات معا.

عادل شديد

 

من نفس القسم دولي