دولي

انفجار المصالحة الفلسطينية

القلم الفلسطيني

في الوقت الذي ينشغل فيه الرأي العام العربي بقضايا كبرى، متنقلة بين العراق وسورية واليمن وليبيا وغيرها، أتى الانفجار الذي وقع في المدخل الشمالي لقطاع غزة، أخيرا، ضد موكب رئيس حكومة التوافق الفلسطينية، رامي الحمد الله، ليخطف الأضواء قليلاً، ويفاقم خيبات الأمل لدى الرأي العام العربي أكثر من ذي قبل، ويضع، في الوقت ذاته، نقطة في آخر السطر الطويل لمسألة المصالحة الكأداء، حتى وإن ظلت هذه الواقعة المستنكرة من جميع الأطراف، موضعاً لتبادل الاتهامات زمنا قد يطول كثيراً، ومحلاً للنقاشات الداخلية الفلسطينية المحتدمة الآن، على الرغم من كل ما يثقل الأجندة الفلسطينية من موضوعاتٍ مصيرية ملحة، مثل مضاعفات اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومستقبل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وصفقة القرن، ناهيك عن التغول الاستيطاني، وغير ذلك من هموم لا حصر لها.

قبل حدوث هذا الانفجار الذي سيقيّد ضد مجهول على الأرجح، كان الحديث عن هذه المصالحة العصية على التحقق في الأجل القريب مصدراً إضافياً للملل، والشعور بعدم الجدوى لدى النخب السياسية والإعلامية العربية المترعة كؤوسها بالأحزان، ناهيك عن الجماهير الفلسطينية التي  امتلأت نفوسها باليأس والاحباط، وأخرجته في الواقع من دائرة الاهتمام والانشغالات، جرّاء كثرة الاجتماعات والإعلانات عن التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، ومن ثمّة الإخفاق المتراكم في إنجاز هذه المهمة الوطنية الجوهرية، وإلقاء الطرفين كل على الآخر مسؤولية العودة دائما إلى المربع رقم واحد، في ختام كل محاولةٍ كانت تبدو جادّة أكثر من سابقتها، لإنهاء الانقسام الذي طال أكثر مما ينبغي، وأضعف القضية المشتركة، وأضر بمكانة المشروع الوطني الفلسطيني، على مدى عشر سنوات، ترسخت في غضونها عوامل الفرقة والانفصال.

وعليه، أحسب أن الحديث مجدداً عن المصالحة، على خلفية استهداف موكب رئيس الوزراء الفلسطيني، لا سيما في هذه الآونة المزدحمة بالهموم والاهتمامات الساخنة، أقرب ما يكون إلى عملية تعذيب للقراء، الذين تشد أنظارهم تطورات الوضع في غوطة دمشق على نحو خاص، وما تحوز عليه الدراما السورية من تغطية إعلامية هائلة، الأمر الذي تبدو معه العودة إلى تناول مسألة باردة، كهذه التي تملي نفسها على قلة قليلة من المهمومين بالشأن الفلسطيني، كعملية إقحام مفتعلة للعنوان الفرعي على النقاش العام، بل وربما حرف الانتباه عن جملةٍ من العناوين الرئيسة لصالح أمر بات يثير الضجر والامتعاض لدى ناس كثيرين.

إذن، ما الجديد الذي يمكن قوله بعد في مسألة المصالحة هذه، بعد هذا الانفجار الذي سيكون له ما بعده من تداعيات في الداخل الفلسطيني المثقل بأخطار جسام؟ وما الذي يمكن إضافته بعد كل الحبر المسال على ضفاف همّ يبدو كأنه الموج، كلما انتهت موجة منه على الشاطئ الرملي تكونت أخرى، تأتي أشدَّ من سابقتها في بعض الأحيان؟ وهل من بارقة أمل تلوح مستقبلاً في الأفق المعتم على كل صعيد، يمكن الاطمئنان لها، والتبشير بها ولو في الأجل الوسيط؟ ولعل السؤال الأكثر أهمية الآن؛ ماذا تبقى من هذه المصالحة التي كانت أول ضحايا هذا الانفجار المصمم، على ما يبدو، لإقفال النقاش وإنهاء المماحكات، والحيلولة دون تحقيق أي انفراج كان مأمولاً به إثر اتفاق القاهرة المتوصل إليه أخيرا؟ 

في ظني، وليس كل الظن إثما، إن تعثر المصالحة لم يعد، منذ مدة، كامناً في الاختلاف على البرنامج الساسي، أو التباين في موضوعة البرنامج الوطني، ولا حتى مسألة تمكين الحكومة أو مستقبل سلاح المقاومة، أو غير ذلك مما كان في السابق سبباً مسوغاً لتعطيل كل جهد ممكن لإنهاء الانقسام اللعين، وإثارة كل ذلك اللغو المشين بشأن من يتحمل وزر استمرار هذا الوضع البائس المهين، خصوصاً بعد أن غيرت حركة حماس رؤيتها السياسية في مايو/ أيار من العام الماضي حول الخيار الوطني، وأكرهت على تبديل تحالفاتها الإقليمية، ولو على مستوى الخطاب، وأخرجت نفسها من عباءة الحركة الإخوانية، ولم يعد لديها حقاً ما تطرحه من قضايا خلافية تستحق استمرار كل هذه المعاناة لنحو مليوني مواطن في قطاع غزة المحاصر على مدى عقد.

وبمعزل عن تداعيات هذا الانفجار الذي سُمع صداه جيداً في الضفة الغربية، فإنه إذا ما وضعنا الكلام الكبير حول التنازع على مغانم السلطة جانباً، وأسقطنا من الحساب المزاعم والادعاءات والتنظيرات الرائجة حول الأحقية والشرعية والمرجعية وغيرها من القضايا الخلافية المعهودة، لا يتبقى، في واقع الأمر، من علةٍ يمكن وضع اليد عليها، وجسها بأصابع اليد، سببا لهذا الاستعصاء المديد، سوى تلك العلة الكامنة في العجز عن استيعاب نحو 45 ألف موظف، عينتهم حركة حماس بعد الانقلاب، تريد الحركة القائمة بسلطة الأمر الواقع ضمهم دفعة واحدة إلى قوائم نحو 160 ألف موظف عامل في صفوف السلطة الوطنية، وهو أمر تقول السلطة إنها لا تقدر عليه موازنة دولة نفطية، فما بالك بسلطة محدودة الموارد تعتمد أساساً على المنح والمعونات الخارجية؟

كانت عوامل عدم الثقة بين طرفي الانقسام، والتنازع على كل صغيرة وكبيرة، فضلاً عن الشكوك المتبادلة بينهما على رؤوس الأشهاد، سبباً من بين جملة طويلة من الأسباب التي عطلت كل مسعى حميد لتحقيق المصالحة، وقد جاء هذا الانفجار الذي لن تدّعي أبوته أي جهة معروفة، ليصب مزيداً من الزيت على النار المشتعلة، ويمنح المعارضين والمتربصين والمستفيدين من استمرار هذه الوضعية الشاذّة، عناصر إضافية وجيهة، لتشديد المواقف المتصلبة أساساً لدى طرفي الانقسام، وإيجاد الذرائع المواتية لتبرير الحالة القائمة إلى أجل غير معلوم، وهو ما قد يفضي إلى اتخاذ سلسلة من التدابير والإجراءات العقابية، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الإداري والمالي، خصوصاً وأن المقدمات كانت أكثر من كافية لرؤية هذا المنحى التصاعدي من قبل، فما بالك وقد أودى هذا الانفجار بالبقية الباقية من الآمال، الضئيلة أصلاً، بإنهاء حياة الدجاجة التي تبيض ذهباً في حِجر الاحتلال؟

وأحسب أن المستهدف بهذا الانفجار الذي شكل نقطة انعطاف كبيرة في مجرى الأزمة الداخلية العميقة، وأسس لقطيعة أشد مما كانت عليه في أي وقت مضى، لم يكن رامي الحمد الله في المقام الأول، وإنما كانت المصالحة على وجه اليقين.

عيسى الشعيبي

 

من نفس القسم دولي