دولي

تفعيل إعلامي جديد لقضية القدس

القلم الفلسطيني

هي مركز الصراع الواقعي والرمزي على فلسطين الذي يدخل طورا جديدا يفرض مراجعات إعلامية وتوجهات تطويرية.. إنها القدس، التي تستحق قضيتها تنمية الوعي بها، واستثارة الوجدان معها، وتيسير المواكبة لتطوراتها، وتنمية حضورها في الوعي العالمي المتنوع، وإنعاش التفاعل والمبادرة لصالحها، وتحفيز الفعل والتحريك والإلهام المتجدد في خدمتها. ويتطلب هذا كلّه انعتاقا من منطق "المدرسة القديمة" إلى آفاق التفعيل الإعلامي الجديد.

تهيمن "المدرسة القديمة" بمنطقها المترهل على التفاعل الإعلامي الفلسطيني والعربي والإسلامي مع قضية القدس، ولا يقوى النمو النسبي الذي يحققه الإسناد الإعلامي للقضية على طمس معضلات ذاتية وجوانب قصور قائمة.

ثمة ضعف واضح، مثلا، في المواكبة والتفاعل بين بعض الأحداث الميدانية والتفعيل الإعلامي الذي تستحقه، كما اتضح خلال "انتفاضة القدس" التي اندلعت بدءا من أكتوبر/تشرين الأول 2015 بكيفية مختلفة عن سابقاتها.

ولهذا القصور صلة بنمطية الحدث الميداني في هذه الانتفاضة/الهبّة، وطابع التكرار الاعتيادي في وقائعها الجسيمة، علاوة على ضعف الإبداع في التناول الإعلامي، فضلا عن غياب الإرادة لدى الرسمية الفلسطينية في إنعاشها.

تكشف القفزات الموسمية وردود الفعل المتفرقة والقصيرة الأمد عن افتقار جسيم إلى ثقافة منظومات التفاعل الإعلامي والمدني والجماهيري والسياسي المتعددة الأطراف، التي بوسعها خدمة قضية واحدة بأدوات وصيغ متعددة على نحو تكاملي منسّق بموجب الاعتماد المتبادل.

أما الاحتلال فيوظِّف منظومات تكرِّس جهودها الدعائية لأداءات وتأثيرات منسّقة نسبيا عبر العالم وتشتغل بصفة طويلة الأمد، رغم عثرات وأخطاء منهجية تتلبّسها بفعل ارتهانها للمركز الاحتلالي.

وما زال الحسّ الإعلامي الاستباقي ضامرا في التفاعل المساند لقضية القدس، بما يتيح لدعاية الاحتلال هامشا من امتياز السبق وترتيب أولويات التناول الإعلامي العام وإلجاء الموقف الملتزم بالقدس وقضيتها إلى ردود أفعال محسوبة. لكنّ نموا قد تحقق، مثلا بتأثير مبادرة المجتمع المقدسي الميدانية، كما جرى في هبّة باب الأسباط في صيف 2017.

يأتي استهداف القدس مصحوبا بإستراتيجيات إعلامية تتكرّس لها خطط وموارد وطاقات هائلة، بما يفرض مواجهتها بفعالية وذكاء. ويتطلّب ذلك رصد هذه الإستراتيجيات وتقصِّي أبعادها ومراميها، والسعي إلى محاصرتها وتقويضها بإستراتيجيات وتكتيكات إعلامية مضادة لها. ولا غنى عن تطوير خطاب مقدسي ينطوي على تفكيك مرتكزات التضليل المعتمدة في هذا الشأن.

من المهم أيضا التوعية بالتهديدات والمخاطر التي تُنذِر بها الجهود الإعلامية المناوئة لقضية القدس، وتنمية الحسّ النقدي لدى الأوساط الإعلامية وفئات الجمهور بشأنها، مع تحفيز التنبّه العام لما تأتي به مستجدات العدوان على القدس وتطوّراته، أما التأثيرات التي تستهدف المقدسيين ومجتمعهم وشرائحهم ومؤسساتهم ومبادراتهم، لإشاعة التيئيس والتثبيط، فتقتضي جهودا إعلامية لتثبيتهم من جانب ولزيادة الأعباء المعنوية على جمهور المستوطنين من جانب آخر.

لا غنى عن تطوير خرائط طريق للتفاعل الإعلامي مع القدس وقضيتها، ومع فلسطين وقضيتها عموما، على أساس التكاملية في المسارات، واللامركزية في التدفقات، والاعتماد المتبادل في التفاعلات، ثمة حاجة ملحّة أيضا لتطوير الخطاب والمُخاطَبة، بإنضاج خطاب فلسطيني مقدسي عالمي يقوم على صياغة مقولات أساسية، وتفكيك ضمني لذرائع الاحتلال، وتمكين مفاهيم ومصطلحات محددة في مواجهة ما تدفع به دعاية المحتلين.

ويُفترَض بهذا الخطاب أن يأتي متكاملا في أبعاده ومضامينه، بما يراعي مسائل الهوية والثقافة والتاريخ والسياسة والقانون والحقوق والأبعاد الإنسانية والمجالات المدنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

ويتطلّب تطوير المُخاطبة ملامسة المعرفي والوجداني، ومخاطبة المشترك الإنساني العالمي عموما ومراعاة خصوصيات كلّ بيئة وأمة بحيالها تفصيلا، بما في ذلك ملامسة الخصوصيات في الدوائر المحيطة بفلسطين في الجوار والنطاقات العربية والإسلامية والإنسانية، وبدل النبرة الدفاعية والسِّمَة الاعتذارية التي خيّمت على خطابات فلسطينية في زمن التسوية السياسية؛ ينبغي بعد "صدمة ترمب" تصعيد الضغط في الخطاب والمبادرة في الترافع والتحرك بروح ندية تناجز دعاية الاحتلال، وهو ما كان مطلوبا من قبل أساسا.

يفرض حمل قضية القدس إعلاميا في الزمن الجديد؛ الانعتاق من تقاليد "المدرسة القديمة"، فهو اشتراط لكسب الرهانات المتجددة في زمن الصورة والمشهد والتشبيك والبث الحرّ والتفاعلية المتبادلة.

فالحاجة قائمة، مثلا، لتشبيك القدس تفاعليا مع أمتها وعالمها بما يحقق المواكبة والمعايشة ويستحثّ الانشغال بقضيتها والتجاوب مع نداءاتها، وهذا عبر مبادرات متعددة قادرة على إنجاز هذا التوجّه في واقع إعلامي تتسارع تطوراته.

ومن الأهمية بمكان تغذية المحتوى الإعلامي والشبكي بالمضامين المتعددة، وتطوير خيارات البثّ الحيّ وتقديم متحدثين مختصين وناشطين متفاعلين، وغير ذلك، ويأتي في صميم هذا التطوير إطلاق طاقات المقدسيين، لا سيما الشباب منهم، في المتابعة والرصد والتوثيق والتصوير والقيام بالمبادرات الإعلامية والمدنية والجماهيرية، والاشتغال على الملفات والتحركات والمبادرات والحملات عبر حالات تفاعلية متبادلة تشمل الحقول المطلوبة كافة، ومنها المجالات الثقافية والفنية.

ثمة فلسفة تعزز هذا المنحى ترى أنّ "الإنتاج من الجملة" -المتاح بسهولة في الزمن الشبكي- أكثر ملاءمة لقضايا التحرر من "الإنتاج بالجملة" الذي تستسهله دول متمكنة ومراكز قوى متنفذة. فدعاية الاحتلال المتعلقة بالقدس، تحوز خطوط إنتاج وتأثير وتحظى بدعم هائل ابتداءً.

وبوسع الإنتاج الإعلامي والتأثير التفاعلي من جملة الجمهور المتضامن مع هذه القضية، أن يمثل مكافئا ذكيا لمنحى التأثير المركّز الذي تقوم به دعاية الاحتلال تلك. لكنّ المسعى يتطلّب إطلاق مبادرات غير تقليدية تستحثّ تفاعل الجمهور والأوساط الإعلامية والمدنية مع قضية القدس، مع توظيف الوسائط والشبكات والمؤسسات والأطراف في هذا الاتجاه.

ويعتمد إطلاق طاقات التفاعل الإعلامي الكامنة على تحفيز الإبداع في نصرة قضية القدس، بتحريك النخب الإعلامية وجماهير الجيل الإعلامي الجديد وكسب صفوة المجتمعات وقادة الرأي لصالح القضية، لإحداث فارق ملموس في إدراكها وكسب الاهتمام لصالحها وتنمية التفاعل معها.

إنّ إنعاش التفاعلية المتبادلة النشطة بين المستويات المقدسية، والفلسطينية، والعربية الإسلامية، والإنسانية العالمية، وتشبيك الجهود الإعلامية مع نظيرتها الجماهيرية والمدنية والسياسية؛ هو خيار تعاظمت أهميته بعد إعلان ترمب السافر بشأن القدس في أواخر 2017.

فدخول القضية منعطفا حرجا يفرض تطوير التفاعل المتبادل بين المسارات الإعلامية والمدنية والجماهيرية والسياسية، فلا انفصام بين التفاعلات في هذه المستويات وما يتفرّع عنها.

ومن الأوراق الرابحة في نقض دعاية الاحتلال أن يقع التركيز على فضح واقع الاحتلال ذاته وتسليط الأضواء على تفاصيله وإجراءاته، كي يباشر الواقع تقويض الدعاية المضللة ومقولاتها الذرائعية.

... يتبع

حسام شاكر

 

من نفس القسم دولي