دولي
الفساد ومكافحته فلسطينيًا
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 06 مارس 2018
أطلق الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)، في 21 فبراير/ شباط 2018، تقريره عن مقياس نظام النزاهة في فلسطين لعام 2017؛ وهو تعبيرٌ رقمي عن مدى قدرة (وفاعلية) نظام النزاهة في فلسطين لمكافحة الفساد وتحصين المجتمع منه. وكانت "أمان" قد بدأت عام 2011 تطبيق هذا المقياس، اهتمامًا منها بوجود مقياس عالمي، يوائم الواقع الفلسطيني ومتطلباته في ضوء غياب فلسطين منذ عام 2005 عن التقرير السنوي الذي تعده منظمة الشفافية الدولية. وقد أظهرت نتائج التقرير رسوب الفلسطينيين في مكافحة الفساد عام 2017؛ حيث بلغت العلامة الإجمالية لمقياس النزاهة 552 نقطة من أصل ألف، وهي علامة تفيد بأن نظام النزاهة في فلسطين بالكاد تخطى عتبة النجاح، وتقييمه أقرب إلى الحدود الدنيا، التي تعني سيئا أو ضعيفا. وبيّن التقرير أن الفساد مرتفعٌ في الحالة الفلسطينية، بسبب ممارسات المؤسسات، نظرًا إلى عدم إصدار تقارير وحسابات ختامية، مثل الموازنة العامة. كما أوضح التقرير وجود رقابة على مؤسسات الإعلام، وتراجعًا في مصداقية الفلسطينيين وثقتهم تجاه القضاء.
وبالكاد تعتبر التقارير الصادرة عن المؤسسة بأنها تقارير رصدٍ ووصفٍ دوري لواقع الفساد ومكافحته في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ إلا أن للتقرير الجديد أهمية خاصة، كونه حصيلة مؤشر طوّرته المؤسسة بناءً على معايير عالمية، فضلًا عن إضافة مؤشرات أخرى تناسب الحالة الفلسطينية. وقد اعتمد في منهجيته على مقياسٍ كمي، يرتكز على 72 مؤشرًا، حصل كل واحد منها على ألف درجة، ومُنح وزنًا محددًا بناءً على أهميته. وبهذه المنهجية قسمت المؤسسة نظام النزاهة في فلسطين إلى قطاعين: التشريعات والممارسات الذي يعني اختبار وجود مدونات سلوك للعاملين، ولجان لاستقبال الاعتراضات، والتأكد من وجود قواعد وإجراءات لمكافحة الفساد، ومؤشرات أخرى عديدة ذات صلة. وتتوزع ضمن هذا التقسيم محاور عديدة لنظام النزاهة، قُسمت إلى ستة محاور، كالإرادة السياسية، والإجراءات والتدابير، والمؤسسات الرقابية، والمجتمع المدني، ودور القضاء، والتعاون الدولي.
في ضوء ما ورد، ثمة ثلاث ملاحظات بشأن طبيعة مكافحة الفساد في الحالة الفلسطينية، يُفهم أنها لا تسعى إلى تطبيق نظام نزاهة جذري، وإيجاد مؤسسات خالية من الفساد، وإنما هي مخصصة لضبط مكافحة الفساد. أولًا، أن ارتفاع عدد التشريعات والمدونات والإجراءات والتدابير، وإنشاء هيئاتٍ لمكافحة الفساد في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، لم يؤدِّ إلى خفض معدلات الفساد في الحالة الفلسطينية، وهذا ما يظهر في تقرير "أمان" الذي يفيد بأن الفساد يرتفع وينخفض بشكل طفيف منذ عام 2011، ما يعني أن الهبوط والصعود الطفيف في معدلات مكافحة الفساد لم يتأثر بالعدد الضخم للقوانين والتشريعات والإجراءات والمدونات التي صدرت. وبعبارة أخرى، قد تبدو قراءة نتائج المقياس ضمن محور التشريعات أمرا غير دقيقٍ، في ضوء عدم تحسّن مؤشرات مكافحة الفساد.
ثانيًا، أن ضعف مكافحة الفساد في الحالة الفلسطينية يعود، في أساسه، إلى غياب إرادة سياسية، أي غياب القدرة على وجود ممارسة حقيقية لمحاسبة الفاسدين، على الرغم من بروز ظواهر فساد عديدة لدى متنفذين في الشأن العام، وذلك في مقابل استمرار تهرّب السلطات من إيجاد حلول لهذه الظواهر المسببة لحالة الفساد، وهي التي تكتفي بمحاسبة أفراد غير متنفذين في الشأن العام. وفي هذه الحالة، لا تعني الإرادة السياسية فقط إصدار تقريرٍ سنوي، ووجود هيئة مكافحة للفساد، ووجود خطة حكومية معلنة لمكافحة الفساد، لا سيما أن هذه المعايير هي محصلة طبيعية لحصول السلطة الفلسطينية على دعم دولي من المنظمات والمؤسسات المانحة، وليس وليدة رغبة أو إرادة سياسية حقيقية لتحقيق الشفافية والنزاهة. وهذا ما أظهره تقرير قسم البحث والتحليل التابع لمجموعة الإيكونومست، في وصفه السلطة الفلسطينية خلال عام 2017 بأنها أقرب إلى السلطوية، وهي التي عرضت التراجع من 6.1/10 عام 2006 إلى 4.4/10 عام 2017 في مستوى الديمقراطية والحريّات واحترام حقوق الإنسان وانعدام الحقوق المدنية والسياسية والشفافية. وهذا يعني أنه، في مقابل الأموال الضخمة التي تحصل عليها مؤسسات السلطة الفلسطينية والمؤسسات غير الحكومية، لعقد مشاريع وندوات وورشات ومحاضرات وكتابة مدونات وإجراءات لدعم الحريّات المدنية والسياسية والشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد، يبقى الوضع في الحالة الفلسطينية أعقد، فلا زال الفساد مستشريًا.
وثالثًا، استمرار غياب المجلس التشريعي الفلسطيني، وإحكام السلطة التنفيذية على المشهد العام، من خلال سياسة التدخل في أعمال المؤسسات الرقابية والمؤسسات غير الحكومية وتوجيهها والتصدّي لها أحيانا. والذي يعني استثمارًا ضخمًا من السلطة التنفيذية لهذا الغياب، وهي التي تصدر قوانين عديدة من دون العودة إلى المجلس التشريعي، ومن دون وجود رفضٍ حقيقي من المؤسسات غير الحكومية والقطاع الخاص لوقف هذه السيولة القانونية، ومن هذه المخالفات القانونية إصدار قانون المحكمة الدستورية العليا، وقانون الموازنة العامة السنوي الذي يُظهر أن السلطة الفلسطينية تصرف قرابة 30% من موازنتها على قطاع الأمن. بالإضافة إلى ذلك، كشف التقرير تدخل قيادات أمنية في القضاء الفلسطيني.
أما التقرير الذي غطى الإطار الجغرافي للضفة الغربية، واستثنى المؤسسات الحكومية في قطاع غزة بسبب الانقسام الفلسطيني، ولم يتطرق لدور الاحتلال الإسرائيلي عاملا رئيسيا في تغذية الفساد في الحالة الفلسطينية، وإهماله دراسة حالات فردية لاستغلال المناصب الحكومية وغير الحكومية والقطاع الخاص لتحقيق المنافع والمكاسب، يستوجب البحث في داخله عن إعادة هيكلة مكافحة الفساد، من خلال تفعيل رقابة شعبية جذرية وحقيقية، تمارس الضغط لفرض الرقابة الصارمة على السلطة والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والقطاع الخاص، وأن تمتد هذه المبادرة لتصبح مبادرةً شعبية عامة، وقناعة لدى أعضائها بأن التنافس لتنفيذها يكون في مقابل السلطة، وليس من داخلها. فمكافحة الفساد في شكله الحالي، بشكل مقصود أو غير مقصود، أضحت تقتضي التغيير الجذري، وذلك لأن الحالة الفلسطينية باتت لا تحتمل مماطلةً لا تحقق مكافحة جذرية للفساد، وإلا سيستمر الفساد في التأثير على كل أشكال المقاومة الفلسطينية للاحتلال على المستوى القصير، وإطالة تغييب أي مشروع نضالي وطني فلسطيني على المستوى البعيد.
إيهاب محارمة