دولي

الريف الفلسطيني وعمليات الاحتواء المستمرة

القلم الفلسطيني

لعب الريف الفلسطيني على مدار التاريخ الحديث دورا محوريا في مقاومة الغزاة، و الذين شكلوا تهديدا وجوديا لشعبنا وأرضنا، حتى أضحى ذلك الريف عمادا لمجمل ثوراتنا وحراكتنا، الأمر الذي حدا بالاجتماع الفلسطيني تسمية أهم ثوراته - ثورة عام 1936- بثورة الريف الفلسطيني.

وعند سبر أغوار هذا الدور المحوري للريف الفلسطيني - خاصة في القرن العشرين- ، نجد أنفسنا أمام تضافر عدة عوامل أسهمت في بلورة هذه الروح الثورية وتعاظمها، والذي ينتمي مجملها للنسق الثقافي والديني للشعب الفلسطيني تاريخيا .

ولعل الايديولوجيا الدينية كانت على رأس تلك العوامل، حيث كان للخطب الدينية والشعارات التقليدية للدين الإسلامي في مجمل قرى فلسطين دورا كبيرا في تشكيل وعي جمعي يضع الأرض الفلسطينية في دائرة “المقدس”، وأي اعتداء عليها من قوى خارجية بمثابة الاحتلال الذي يوجب الجهاد وبذل النفس لدفعه.

كما لعب الارتباط العضوي بين الريفيّ الفلسطيني وأرضه دورا على درجة كبيرة من الانسجام مع البعد الديني، ولعل هذا الارتباط مرده تفاعل النسق الشعوري المضطرم دوما في نفوس الريفيين بفعل تعاطيهم الدائم مع الأرض زراعة وحصادا وتسرية، وبين النسق النفعي والذي ينطوي على اعتبار الأرض مصدرا معيشيا محوريا وربحيا يسهم في بلورة الهوية الريفية واستمرار البقاء الوجودي.

وفي أوج العطاء الثوريّ في الأرياف الفلسطينية، شكل قيام نظام سياسيّ فلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1994 ، انعطافة تاريخية أثرت على الدور الريفي وحرفت مساره، الأمر الذي أنذر بأفول أهم نقاط قوة الاجتماع الفلسطيني في صراعه مع المحتل الصهيوني.

حيث قام النظام السياسي - السلطة الفلسطينية- بأكبر عملية تدجين وتقليم أظفار للروح الريفية، من خلال احتواء أعداد كبيرة من الريفيين في مؤسساتها وأجهزتها ذات المسحة البيروقراطية الرتيبة، والتي كان لها دور تدميري عبر نفي وتقويض “النزق والتمرد الريفي المعهود” واستبداله بتركيب نفسي ريفيّ يستمرء الخضوع للوائح قانونينة ممجوجة ولاهث وراء حفنة أموال.

والأدهى أن بيروقراطية السلطة كانت بمثابة مبضع طبي قام بقطع صلات الريفيين بأرضهم، عبر نسق ثقافي حداثي، جعل الريفيين ينغمسون بالثقافة الاستهلاكية لأذنيهم ونفي صفة الإنتاج عنهم، علاوة على تزيين فكرة الهجرة للمدن، والانغماس في نظام القروض بغية تحصيل مظاهر الترف التي يتسم بها المجتمع المديني.

وفي تزامن مريب، تبلورت نظرية اقتصادية صهيونية تفكيكية، أسهمت في  احتواء ما تبقى من الريف الفلسطيني، والذي كان عمادها عشرات آلاف فرص العمل في الداخل المحتل والمغتصبات في الضفة، والتي تعاطى معها الريفيون بايجابية كبيرة، في ضوء الاقتصاد المتداعي محليا، وعدم اهتمام السلطة بالريف ودعمه بالمشاريع التنموية.

حيث استطاع المحتل الصهيوني ومنذ العقدين الأخيرين في القرن العشرين وإلى الآن توفير فرص عمل شملت معظم الريف الفلسطيني الممتد من قرى جنين وحتى قرى محافظة الخليل، حتى وصل الحال إلى شبه خلو للعنصر الذكوري في الريف الفلسطيني أغلب أيام الأسبوع !!.

والأخطر أن المحتل الصهيوني استطاع تحييد الريف الفلسطيني بشكل لا بأس به خلال انتفاضة الأقصى من خلال التسهيلات المتعمدة للعمال الريفيين، حيث لوحظ أن قرى محافظة سلفيت وقلقيلية والخليل على وجه الخصوص - وباقي المحافظات بنسبة أقل - ظل عمالها يتوافدون إلى الداخل المحتل أغلب فترات الانتفاضة وخاصة الفترة الممتدة من 2004 -2008 .

ولعل الأهم أن هذه النظرية الاقتصادية استطاعت بلورة وعي ريفي استبدل قيمه الوطنية المستمدة من أرضه ومنظومته الفكرية المتوارثة، بقيم استهلاكية في ضوء المردود الماليّ الكبير وتحسن الأحوال المعيشية، في مقابل ترديها محليا وانتفاء وجود استراتيجية وطنية تنطوي على دعم الريف وتعزيز صموده .

وإزاء جملة الحقائق المؤلمة والتي أنتجت ريفيا فلسطينيا لا يحمل في ثناياه سوى ذاكرة وطنية مهشمة وارتباطا هزيلا بأرضه - والذي تجسد بعمليات البيع الممنهجة لرؤوس الأموال الفلسطينية أو للمحتل الصهيوني- كان لا بد من نحت استراتيجية وطنية عاجلة تعيد الريف الفلسطيني إلى مكانته، واضطلاعه بدوره التقليدي والطليعي في الدفاع عن أرضه ومقدساته.

كما لا بد من سلسلة قرارات ومشاريع رسمية تنهض بالريف الفلسطيني وتعمل على تقوية عوامل صموده حتى لا يكون فريسة سهلة للمخططات الصهيونية، والتي تستهدفه وجوديا .

عامر المصري

 

من نفس القسم دولي