دولي

ترمب وقطع المساعدات المالية عن سلطة فلسطين

القلم الفلسطيني

لم يفاجئ الرئيس الأميركي دونالد ترمب أحدا عندما غرد ضد استمرار المساعدات المالية لسلطة فلسطين، إذ كان من المتوقع أن تقوم الإدارة الأميركية بهذه الخطوة. ومن الوارد جدا أن يمتنع الكيان الصهيوني عن تحويل أموال الضرائب والجمارك التي يجبيها على البضائع المستوردة لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني.

وقد سبق لأميركا والصهاينة والأوروبيين أن أوقفوا المساعدات المالية والضخ المالي بهدف إخضاع السلطة وإجبارها على تلبية بعض المتطلبات، وكانت السلطة تستجيب في النهاية وتلبي ما يطلبون.

فمثلا، توقف الضخ المالي للسلطة بعدما تم تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة الدكتور سلام فياض وذلك بعد اتفاق مكة المكرمة. والنتيجة كانت أن انهارت الحكومة وتم إخراج حماس من المعادلة، وتشكلت حكومة وفق المقاييس الصهيونية والأميركية، فعاد المال. وتكرر هذا المشهد بخاصة عندما كانت تشذ السلطة بعض الشيء عما هو متوقع منها، وكان الخضوع للابتزاز هو السائد.

هل كان يعلم المفاوض الفلسطيني أن الترتيبات المالية والاقتصادية التي ترتبت على اتفاق أوسلو واتفاق باريس الاقتصادي ستشكل حبال مشنقة تلتف حول رقاب الفلسطينيين؟ بالتأكيد كان يعلم لأن الأمر بسيط جدا على الإدراك الإنساني حتى ولو كان الإنسان طفلا.

فمَن في الأرض يضع لقمة خبز شعبه بيد أعدائه؟ وكيف يوافق وطني فلسطيني لديه أدنى حس بالمسؤولية الوطنية على ترتيبات كهذه؟ يبدو من المؤكد أن ثقة المفاوض بالعدو كانت عالية حين افترض فيه النوايا الحسنة، على عكس ما جرت عليه محافل المفاوضات الدولية حتى ولو كانت بين أصدقاء.

ارتكبت القيادة الفلسطينية خطيئة لا تغتفر بحق الشعب الفلسطيني، وركبت رأسها معاندة كل الأصوات الوطنية التي جفت حناجرها وأقلامها وهي تحذر من عواقب الترتيبات الاقتصادية والمالية. ولم تتريث سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في توسيع إداراتها المختلف، وزيادة أعداد الوظائف العامة بصورة مذهلة وأكبر بكثير مما يحتاجه الشعب لإدارة شؤونه.

وهذا يعني أنها رفعت بصورة حادة أعداد الموظفين الحكوميين الذين يعتمدون في رواتبهم على المساعدات المالية الخارجية، والذين يشكلون عناصر ضغط على السلطة إذا توقف تدفق المال.

وتابعت السلطة سوء تصرفها بفتحها أبواب الأراضي المحتلة عام 1967 للاستيراد، وتدفقت بضائع الصين وتركيا والهند وغيرها على حساب المنتج المحلي. وبسبب انخفاض أسعار البضائع المستوردة، تعطل العامل الفلسطيني مثل النجار والحداد والنعال والنساج والخياط (الترزي) والفلاح.

أي أنه تم رفع أعداد الناس الذين يعتمدون على الراتب، والحد كثيرا من أعداد الناس المنتجين، وحل الاسترخاء وراء المكاتب مكان عرق الجبين الذي كان يجب أن يكون شعارا يوميا يشجع الشعب على العمل والإنتاج.

تهديد الرئيس الأميركي ومحبوبته مندوبة أميركا في الأمم المتحدة تحصيل حاصل، ولا جديد فيه، فلم تكن الأموال الأميركية يوما إحسانا لوجه الله تعالى، وإنما كانت مكافأة للذين تنازلوا عن وطنهم وخاصة الأرض المحتلة عام 1948، وعنصر ضغط لضمان سير الفلسطينيين سياسيا وأمنيا وفق إرادة العدو المتمثل في الصهاينة والإدارة الأميركية.

هذه الأموال كانت وما زالت نقيض الإرادة السياسية الحرة، وساذج من يظن أن أميركا وغيرها من الدول تكافئ من يصرون على حرية إرادتهم السياسية. وبمجرد أن قبل الفلسطيني بربط عيشه بأموال غيره، فإنه يكون قد تنازل صراحة وضمنا عن حريته في اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا.

وهنا أشير إلى أن هناك سهولا في الأرض المحتلة 67 تم تدميرها بالبنيان، مثل سهول طولكرم وجنين والبيرة ودورا. وبدل أن ينتشر البنيان على الجبال فإنه يستمر في الزحف على السهول الصالحة للزراعة.

2- أغلب المساعدات المالية الأميركية يتم تخصيصها للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي هي في الغالب لا ضرورة لها. الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة بحاجة فقط إلى جهاز الشرطة للحفاظ على الأمن المدني، أما باقي الأجهزة الأمنية -التي من المفروض أن تحافظ على الأمن الوطني- فلا ضرورة لها، لأنها لا تستطيع الدفاع عن الأمن الوطني الفلسطيني.

وهي أجهزة مكشوفة أمام الاحتلال ومقراتها معروفة وتشكل أهدافا سهلة لجيش الصهاينة، هذا فضلا عن أن اتفاق أوسلو وملحقاته تفرض على السلطة الفلسطينية الدفاع عن الأمن الصهيوني وذلك بملاحقة الإرهابيين، أي المناضلين والمجاهدين الفلسطينيين.

وسيرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية في هذا المجال واضحة للعيان ولا تحتاج إلى اجتهادات ومبررات. وإذا توقفت الأموال الأميركية عن هذه الأجهزة فإن في ذلك فائدة للشعب الفلسطيني، والحديث هنا هو عن أجهزة وليس عن أفراد لأن أغلب أفراد الأجهزة الأمنية وطنيون، وينتظرون الفرص المناسبة للدفاع عن شعبهم.

هناك من يستنجد بالعرب والمسلمين من أجل تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، لكي تتمكن من القيام بمهامها الإدارية وتغطية النفقات الجارية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تتلقى دعما ماليا مباشرا من عدد من البلدان العربية، لكن اتفاق أوسلو حرم السلطة الفلسطينية من هذه الأموال وحولها إلى مجموعة الدول المانحة.

لم أقرأ نصا في الاتفاقيات حول هذا الأمر، لكن جرت العادة أن تصب هذه الدول -مثل بريطانيا وكوريا واليابان والسعودية- مساهماتها الممنوحة للسلطة في بوتقة شاملة. وهذا لم يمنع تقديم بعض المساعدات العربية المباشرة للسلطة الفلسطينية، إذ سبق أن قدمت السعودية وقطر مساعدات بدون وسيط.

السؤال المطروح يتعلق بالمدى السياسي الذي ستواصل فيه الولايات المتحدة -ومعها الكيان الصهيوني- قطع المساعدات المالية عن السلطة الفلسطينية. وتقديري أن هناك حدودا سياسية لن تتجاوزها العقوبات الأميركية، ولا يرضى بها الكيان الصهيونية، وهي متعلقة بوجود السلطة.

وبدل أن تبقى الأجهزة الأمنية الصهيونية مستنفرة وواقفة على رؤوس أصابع أقدامها، هناك بديل فلسطيني يراقب ويتابع ويعتقل ويفكك خلايا المقاومة.. إلخ. وإذا توقفت السلطة عن تقديم هذه الخدمات فإنها تحكم على نفسها بالتوقف عن العمل، وعندها لن يكون الكيان بحاجة لها، وسيصبح رحيلها أمرا محتوما.

وعليه فإن المساعدات المالية الأميركية مرتبطة بالخدمات التي يستفيد منها الكيان الصهيوني، واستمرار وقفها مرتبط بالمصير الذي ينتظر السلطة، أي أن وقف المساعدات سيتوقف على تهديد ذلك لمصير السلطة الفلسطينية وهل سيؤدي إلى انهيارها.

أميركا والصهاينة لن يسمحا بانهيار السلطة تحت الظروف الحالية، وهما سيسمحان بذلك فقط إذا توقفت النشاطات الفلسطينية التي يرغب فيها الاحتلال. والمعادلة الجدلية في النهاية كالتالي: المساعدات المالية تشكل حبل مشنقة على رقبة الشعب الفلسطيني، وهي أداة فعالة في نفي الإرادة السياسية الحرة للشعب الفلسطيني.

والدفاع عن الأمن الصهيوني مبرر وجود السلطة، ومنه تستمد السلطة استمرارها في العمل. والصهاينة والأميركيون لن يضحوا بالسلطة ما دامت تقوم بالخدمات التي نصت عليها الاتفاقيات. ولهذا لن يكون الأميركيون سعداء إن انهارت السلطة.

والحكمة تدعو السلطة إلى إعادة ترتيب الأوضاع الفلسطينية السياسية والثقافية والاجتماعية والوطنية بطريقة تنتهي إلى خيبة أمل الأميركيين والصهاينة، وعلى رأس ذلك إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تشكل مظلة للكل الفلسطيني.

عبد الستار قاسم

 

من نفس القسم دولي