دولي
من يحاكم عهد التميمي؟
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 ديسمبر 2017
لم ننس صورتها، وهي في الثامنة من عمرها الغضّ، وهي ترفع قبضتها في وجه أحد جنود الاحتلال. احتلت الصورة مكانها في قلوب البسطاء، ولدى الأغنياء وضعت في واجهة المؤسسات، وكانت خلفية رائعة يقف أمامها الخطباء، حتى جاءت صورة جديدة لها بعد مرور سنوات، وحيث أصبحت يافعة ابنة ستة عشر ربيعاً، وهي تنظر بتحدٍّ وشموخ وكبرياء، ولا تعبأ لقبضات الجنود التي انتزعتها من بيتها، ودفء عائلتها، وألقت بها في برودة السجن.
في السجن، بدا شعرها الذهبي الذي يغازل أشعة الشمس، فينسج معه سبائك ذهبية تأسر العين والقلب، بدا ملبّدا، لأنها لا تملك مشطا في زنزانتها لتسرّحه، لكنها على الرغم من ذلك لم تحزن، لأنها لم تهذّب تاج جمالها، بل كانت ما زالت تملك النظرة نفسها التي تختصر حكاية شعب، فالتقطتها الكاميرات مرات عدة، لكن العدسات غفلت عن عشراتٍ، بل مئاتٍ مثلها، ما زالوا يتصدّون للاحتلال، وهو يقضم الأرض قطعة بعد قطعة، ولكن عهد اختصرت حكاية كل يوم منذ مئات السنين، فلاحقتها الكاميرات، ولم تلاحقها بنظرتها وقبضتها، فروت كل الحكاية.
غفلوا عن شجاعتها وبسالتها وإقدامها. تغافلوا عن قبضتها المضمومة في وجه قوةٍ عاتيةٍ مغرورة، وتغافلوا عن دفاعها عن الوطن واعتصامها الأسبوعي مع أبناء قريتها، النبي صالح
الصغيرة المكشوفة الشعر كال بعضهم لها الشتائم، على الرغم من أنها الساترة عوراتهم، حتى أصبحت ورقة التوت الأخيرة.
غفلوا عن شجاعتها وبسالتها وإقدامها. تغافلوا عن قبضتها المضمومة في وجه قوةٍ عاتيةٍ مغرورة، وتغافلوا عن دفاعها عن الوطن واعتصامها الأسبوعي مع أبناء قريتها، النبي صالح، لكي يدحروا امتداد الجدار السرطاني العنصري وزحفه نحو أراضيهم، فهي تجرّدت من غطاء رأس رقيق، وهم تجرّدوا من شعورهم نحو مقدساتنا، ومن تضامنهم مع أكثر من أربعمائة طفل فلسطيني يقبعون خلف القضبان، تمثلهم عهدٌ ولا تزيد عنهم، وتشبههم ويشبهونها فكل واحدٍ له بيت وعائلة، ويرتدي جورباً بنياً وحذاء سميكاً، ليحتمي من برد الشتاء، لكنه لا يجد من يحميه من القبضات القذرة التي تهين إنسانيته، وتغتال طفولته.
داعبت عهد الصغيرة، بلباسها البسيط، خيال المرضى من المغرّدين والناشطين، والباحثين عن شهرةٍ زائفة، والصائدين في المياة العكرة، والناظرين إلى سفاسف الأمور، فأعلن أكثر من واحد نيته الارتباط بها، وكأنه يمنحها شرفاً لا تريده، ويعطيها عزّاً نالت أضعافه، حين أصبحت ابنة فلسطين الثائرة منذ نعومة أظفارها، والتي لاحقها العدو، لأنها استطاعت، بمصادفةٍ بحتةٍ، أن تجمع الكاميرات الجائلة حولها، فكرّمت وعزّزت، وسافرت وجابت البلاد لتنال التبجيل، وغيرها كثيرات يقبعن، بصمت مميت، في أقبية السجون، ولكن عهد لحقت بهن، وستغيب قضيتها، مثلما غابت قضايا أسيراتٍ كثيراتٍ، فمرّ عمرهن، وذبلت زهرة شبابهن، ووضعن أجنتهن والقيد حول معاصمهن، وخرج الجنين حرّاً ليرى وجه طبيبةٍ، لم تبتسم مرحبة بمقدمه، ولم تمتلك أدنى عاطفة نحو أمه.
ستُحاكم عهد التميمي مرّتين. عقدت الأولى قبل محكمة العدو، محكمة تهدف إلى نزع الأهلية عن الصراع الفلسطيني، وإلى الحديث عن قضيةٍ ليس لها أساس، وهي أن الفلسطيني قد باع أرضه، ولا تعبأ كثيرا هذه المحاكمة بالبعد العقائدي والديني.
وربما أراد من نصّبوا هذه المحاكمة العاجلة حجب الأضواء عن المناضلات الفلسطينيات المحجبات، بغرض زيادة الانقسام والتشتت على الجبهة الداخلية الفلسطينية، وقد سارعت "إسرائيل" فنشرت صوراً لعهد مظللة الوجه، لكي لا تكسب مزيدا من التعاطف، لأن الصبيّة الفلسطينية جميلة أكثر مما ينبغي، ولأنها شقراء على خلاف معظم فتيات فلسطين ونسائها، ولذلك غيّبهن الإعلام عن الواجهة.
ولا تصبّ هذه التوجهات إلا في مصلحة العدو، لأن كل امرأة فلسطينية واجهت المحتل، ولو كانت في كل حارة كاميرا مراقبة لرصدت بطولات لأمهاتٍ تركن "طشت الغسيل"، والآنية فوق الموقد، وخرجن لتخليص الصبية من بين أيدي الجنود. ولرصدت عشرات اللكمات والصفعات التي أصابت هؤلاء المارقين على أيدي نساء فلسطين، وفي حواري مخيمي جباليا والشاطئ في قطاع غزة بالتحديد، فهّلا حركت فينا عهد محرّكاً لحركة نضال عام، وليس فقط نموذج فتاة ظهرت كأنها حالة خاصة؟
سما حسن