دولي

معركة القدس على المستويين الرسمي والشعبي

القلم الفلسطيني

في كلمته التي أعلن فيها اعتراف بلاده بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، راهن الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أن ردة الفعل عليه ستكون مؤقتة وعابرة، ما يجعل ديمومة الغضب جزءا لا يتجزأ من معادلة نجاح معركة الدفاع عن القدس.

تقع على عاتق منظمة التعاون الإسلامي مسؤولية أخلاقية وأدبية تجاه القدس، التي كانت سبب إنشائها عام 1969 بعد إحراق المسجد الأقصى، باسمها الأول منظمة المؤتمر الإسلامي. كما أن الحدث اليوم طارئ وخطير على مصير القدس ومستقبل القضية الفلسطينية، الأمر الذي رفع سقف التوقعات بخصوص قمة إسطنبول رغم تاريخ المنظمة -والمنظمات الشبيهة- الحافل بالمواقف غير مرتفعة السقف.

خرج الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الإسلامي بقرارات تحمل رمزية سياسية رفضت قرار ترمب ودعته للتراجع عنه، واتخذت ما بدا وكأنه القرار المقابل له أي الاعتراف بدولة فلسطين وعاصمتها "القدس الشرقية المحتلة". لكن غابت في المقابل القرارات العملية القادرة فعلا على الضغط على الإدارة الأميركية، سياسيا واقتصاديا ودبلوماسيا، لعدة أسباب في مقدمتها الجمود والترهل اللذيْن تعاني منهما مفاصل المنظمة، والخلافات بين دولها الأعضاء، ومستوى التمثيل المتدني لبعض الدول الفاعلة سيما المملكة العربية السعودية ومصر. ويبدو أن ضعف تمثيل بعض الدول كان مقصودا لذاته، إما تجنبا لإغضاب واشطن أو كتعبير عن موقف سلبي من تركيا، وفي الحالتين لخفض سقف مقررات القمة إن لم نقل إفشالها.

تحمل قرارات منظمة التعاون في إسطنبول أرضية يمكن البناء عليها، فرديا وجماعيا خصوصا على الصعيد الدولي، لكن ينبغي التنبه إلى أن بعض القرارات لها مدلولات ليست بالضرورة إيجابية للقضية الفلسطينية. فالإعلان عن "القدس الشرقية" عاصمة لدولة فلسطين يعني الاعتراف الضمني بتبعية "القدس الغربية" لدولة الاحتلال، وهو ما يرفضه الشعب الفلسطيني بعمومه، فضلا عن كونه تنازلا غير مبرر قبل أي عملية سياسية مفترضة.

من بين مخرجات القمة مطالبة مجلس الأمن بالاضطلاع بمسؤولياته، وإلا فـ"إثارة هذا الانتهاك الخطير في الجمعية العامة للأمم المتحدة". وبعد الفيتو الأميركي على مشروع القرار الذي تقدمت به مصر، تم التوجه للجمعية العامة للأمم المتحدة وفق الفقرة "أ" من قرارها رقم 377 الذي يحمل عنوان "متحدون من أجل السلام". ويجيز هذا القرار، المؤرَّخ في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1950 إثر الأزمة الكورية، عقد جلسة استثنائية طارئة في غضون 24 ساعة، إذا بدا أن "هناك تهديدا أو خرقا للسلام أو عملا من أعمال العدوان، ولم يتمكن مجلس الأمن من التصرف بسبب تصويت سلبي من جانب عضو دائم، حيث يمكنها أن تنظر في المسألة على الفور من أجل إصدار توصيات إلى الأعضاء باتخاذ تدابير جماعية لصون أو إعادة السلام والأمن الدوليين".

تدرك الدول العربية والإسلامية بأن قرار ترمب بخصوص القدس له تبعات كارثية على مصير المدينة ومستقبل القضية الفلسطينية، وبالتالي فالقدس هنا بمثابة خط الصد الأول للأمن القومي العربي والإسلامي، الأمر الذي يرتب مسؤوليات عليها جميعا. وإذا كانت سقوف المنظمات الجماعية واطئة بسبب البيروقراطية الثقيلة والحاجة لتوافق الجميع، فإن ذلك لا يعفي الدول من الإجراءات الفردية التي يمكن أن تلجأ لها، على مستوى العلاقة مع الولايات المتحدة أو حتى مع دولة الاحتلال بالنسبة للدول التي تربطها بها علاقات دبلوماسية.

لا يبشر المسار الرسمي بكبير إنجاز بالنسبة لقضية القدس، ولعله لا يحمل وفق المعطيات الحالية إمكانية النجاح في مواجهة قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية. ذلك أن موافقة الجمعية العامة على مشروع القرار المفترض بخصوص القدس لن يعني الكثير فعليا، في ظل سوابق ماثلة واختلال موازين القوى وغياب إرادة دول فاعلة ومؤثرة. كما أن نص القرار 377 يشير إلى "إصدار توصيات إلى الدول الأعضاء"، الأمر الذي لا يحوي بقوة رادعة لواشنطن عن قرارها أو ترمب عن مخططاته.

الاستثناء الوحيد للأطراف الرسمية هو السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة محمود عباس، التي تملك أوراق ضغط حقيقية تبدأ بالرفض الفعلي للدور الأميركي في عملية التسوية، وتمر بوقفة صادقة ومراجعة حقيقية لهذه العملية منذ 1993 وحتى الآن وما جرته من كوارث على القضية الفلسطينية، ولا تنتهي عند وقف التنسيق الأمني وتخفيف القبضة عن الناشطين والمقاومين في الضفة الغربية المحتلة، فضلا عن المسار السياسي والقانوني على الساحة الدولية.

إذن، فالرهان الرئيس هو البعد الشعبي ودور الشارع في معركة القدس، محليا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخارجيا في الدول العربية والإسلامية والعالمية.

فالهبة التي بدأت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، سيما القدس والضفة، ذات تأثير مباشر على الاحتلال وغير مباشر على قرار الإدارة الأميركية بالتبعية. وهي هبة قادرة على الاستمرار والتأثير وتحمل فرص التحول لانتفاضة شعبية بالنظر لرمزية القدس -التي كانت سبب اشتعال الانتفاضة الثانية- وخطورة ما ينتظرها. وقد أثبت الفعل الشعبي قدرته على تغيير قراراتٍ وسياسات سابقة للاحتلال، وآخرها ما حصل لقرار البوابات الإلكترونية في المسجد الأقصى الذي تراجع عنه الاحتلال رضوخا للهبة الشعبية في حينها.

وباعتبار أن القدس ليست شأنا فلسطينيا بل قضية العرب والمسلمين ثم أحرار العالم، تقع على كاهل الشارع العربي والإسلامي مسؤوليات حقيقية. ينبغي للحراك العربي والإسلامي القائم أن يستمر ويتفاعل ويتزايد، أولا لإسقاط رهان ترمب ونتنياهو على هبة مؤقتة وعابرة، وثانيا لدعم الحراك الفلسطيني الداخلي، وثالثا لدعم الحكومات الراغبة في عمل شيء والضغط على الأخرى، بمعنى رفع سقف جميع الدول والحكومات من مختلف التوجهات والإرادات، والتي تملك إن صدقت نواياها القدرة على التأثير على القرار الأميركي.

بيد أن الفعل الشعبي ينبغي ألا يقتصر على المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات، على أهميتها، بل يجب أن يستغرق كافة مجالات العمل الشعبي من اتحادات ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني وصولا للعمل البرلماني الفاعل اتجاه القدس، وينبغي لأهداف هذا الحراك أن تتخطى حاجز التحشيد وصولا لنشر الوعي ثم التأثير السياسي.

ولعله أتى الوقت الذي يجب على الشعوب العربية والإسلامية أن تعيد الاعتبار لحملة مقاطعة البضائع الأميركية، فضلا عن "الإسرائيلية"، بعد أن فقدت زخمها مؤخرا، باعتبارها فعلا شعبيا قادرا على إيصال الرسالة إن خطط له جيدا.

سعيد الحاج
 

من نفس القسم دولي