دولي
ترامب والقدس والعرب
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 11 ديسمبر 2017
للوهلةِ الأولى، عشية إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس، واعترافه بأن القدس عاصمة شرعية لإسرائيل، ظنّ بعضهم أن قراراً كهذا هو نسف لكل جهود السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وإسقاط لأي شرعية عن الولايات المتحدة دولة راعية للسلام. لكن هذه التكهنات سرعان ما تم إسقاطها لعدة مؤشرات، فمؤكد أنّ ظهور ترامب بموقف كهذا وإعلانه ما امتنع عنه أسلافه، هو بمثابة صناعة لحظة تاريخية فارقة لحياة رجل الأعمال والصفقات، أراد أن يثبت للعالم فيها أنه رجل المرحلة الحالية، ولا سيما لحاضنته الشعبية.
من ناحية أخرى، أراد أن يفي بوعدٍ قطعه على نفسه خلال فترته الانتخابية، وعليه لم يأتِ بجديد سوى عدم التفكير باللحظة التالية، وهي التي لا تعني شيئا لترامب، لا من قريب ولا من بعيد، كون مؤسسات صنّاع القرار هي من تتحكم بمفاصل السياسة الأميركية، وليس غريبا أن نتوقع أن وصول ترامب إلى السلطة إنما هو بغرض إطلاق لسانه بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل.
ترامب رجل المرحلة فعلاً، لكن ليس بجهده الخاص، بل أُريد له أن يكون كذلك، وظهوره أخيرا ربما يمثل إطلاقة شرعية التطبيع من السر إلى العلن بين إسرائيل وممن تُطلق عليهم إسرائيل التيار الإسلامي المعتدل (السعودية، الإمارات، مصر، البحرين). وعليه، جاء الاعتراف بأحقية سيادة دولة إسرائيل وحرية اختيار عاصمتها جاءت بمثابة اللمسات الأخيرة لجهود سابقة، كشفت عنها أخيرا وكالة رويترز، مفادها بأنّ السعودية تعمل منذ أسابيع خلف الكواليس لدفع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، لإتمام جهود السلام، وكشف مسؤولون فلسطينيون أنّ الرياض تشارك باستراتيجية أميركية واسعة لدفع عملية السلام، مضيفين أنّ محمد بن سلمان ناقش مع عباس صفقة كبرى، قد يكشف عنها ترامب وصهره كوشنير مطلع عام 2018.
وعليه، فقد تخوّف المسؤولون من أن تكون الصفقة في تأسيس كيان ذاتي فلسطيني في غزة وثلاث مناطق إدارية في الضفة الغربية مع بقاء المستوطنات الإسرائيلية مكانها وحرمان الفلسطينين من حق العودة. وإنّ صحت هذه الرواية التي يلعب بها كوشنير دورالوسيط، فإن ما كنّا نخشاه قد يحدث، وقد عزّز مصدر سعودي هذه الرواية، باعتقاده أنّ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين ستظهر نتائجه في الأسابيع المقبلة.
إزاء ذلك، يمكن فهم تصريحات ترامب عقب إعلانه، إذ قال إنه تناقش مع بعض الزعماء العرب قبل إعلان القرار، وهو ما بدا أنّ محمد بن سلمان شخصياً والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومحمد بن زايد موافقون عليه، أي الصفقة التي قد تفتح أبواب الجحيم على كامل منطقة الشرق الأوسط، ناهيكم عن أنّ ترامب لم يكن ليجرؤ على هذا الإعلان، لو أن المملكة وضعت خطاً أحمر.
علاوة على ذلك، لم تغب عن أميركا وإسرائيل تبعات القرار من احتقان للشارع العربي وتفجير انتفاضة في الأقصى واحتجاجات أخرى، تملأ العواصم العربية.
كل هذه الأمور مدروسة بدقة أمام مسيرة التطبيع العربي الإسرائيلي، ودفع العداء العربي باتجاه إيران، ولو أننا نظرنا إلى توقيت إعلان لحظة ترامب التاريخية، لرأينا أنها جاءت في توقيت يتناسب بكل المقاييس مع طموحات الاحتلال الإسرائيلي، فهذه الدول العربية أنهكتها رياح ثورات الربيع العربي، فحب الشهوة والسلطة والبقاء، ثمنها تدمير أوطانٍ بأكملها وتفكيك مكامن القوة بها.
وبلفتة سريعة، لم تعد الدول العربية تحلم بالزمن الرديء الذي تكلم عنه الراحل ياسرعرفات فحسب، بل إنّ ما يمر به الوطن العربي اليوم هو زمن الانحطاط العربي، فقد تكاتفت الدول وانقسمت على نفسها، فأصبح لدينا تيار سعودي إماراتي بحريني مصري، وآخر إيراني لبناني. وكلا التيارين ساهم في وأد أحلام وحرية شعوبهما، وغدت الحريات مجرد أحلام، وإذا ما كنا نبكي في الأمس على القدس، أصبحنا اليوم نبكي على الشام وبيروت وبغداد وصنعاء. أما القدس، فقد علمنا اليوم أنّ الدول العربية كانت تتباكى عليها ثم تاجرت بها، ثم باعتها، بأرخص الأثمان، وإن صح المقال عن دفع عملية التطبيع والسلام مع إسرائيل، فربما تكون الصفقة خذوا القدس، وأبعدوا إيران عن قصورنا، وهو ما لن يفعله ترامب، ولا صنّاع القرار في أميركا.
يمان دابقي