دولي
"صفقة القرن" بين زعماء طائشين
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 25 نوفمبر 2017
تبدو "الصفقة" سراً كبيراً إلى درجة أنّ هناك من يراها وَهْماً لن ينهض من الأساس، بينما يؤكد آخرون أنّ ترتيباتها نضجت بالفعل وأنّ خروجها إلى السطح بات مسألة وقت، بما سيفرض انصياعاً عربياً واسعاً للمفهوم الإسرائيلي الاستعلائي للتسوية السياسية لقضية فلسطين.
يبقى أي قلق من مشروعات غامضة كهذه مبرراً، فكيف إن كان راعي المشروع الجديد المفترض هو الرئيس ترامب تحديداً، الذي يتباهى بأنه وحده الذي يستطيع حل المعضلات المستعصية، وهذا على طريقته الخاصة في حمل الهراوات الغليظة وإرغام الحلفاء والشركاء، قبل الأتباع الخائفين، على الرضوخ؟
يدرك البيت الأبيض جيداً أنّ زعماء العالم العربي مصابون الآن بالهلع على مصائرهم ومستقبل حكمهم، وتتملكهم الخشية من شعوبهم ومن منافسيهم في الجوار. يخوض بعض القابعين في قصورهم الفخمة حفلة طيش حافلة بمفاجآت مذهلة على مرأى من العالم، ولا يترددون في التضحية بالحقوق الفلسطينية في سبيل ضمان الرعاية السياسية الأمريكية لهم. تدفع هذه الحالة الهوجاء بعضهم إلى انزلاقات مارقة من أي منطق استراتيجي عقلاني، فهم لا يكترثون بالأثمان الباهظة المدفوعة في سبيل توفير الغطاء السياسي الخارجي لحكمهم السلطوي الذي لا يستند إلى إرادة شعبية؛ بل يعتمد على السطوة الأمنية وتسويق الوعود وكسب الغطاء من الدول الغربية؛ عبر التسابق إلى خدمة مصالحها وعقد صفقات سخية لا طائل من ورائها سوى استمالة واشنطن وعواصم أوروبية.
في المحصلة؛ ستكرِّس "صفقة القرن" بين الجانبين الإسرائيلي والعربي، إن نهضت بالفعل، حالةَ إخضاع الشعوب لسطوة أنظمة حكم مستبدة. فالحاكم المعزول في قصره يراهن على استرضاء العواصم الغربية عنه بالتعاون الأعمى مع الجانب الإسرائيلي، مع التعهد بخوض "إصلاحات جريئة" في المجال الديني تضمن تقديسه شخصياً في الداخل والسكوت عنه في الغرب، مع مواصلة الحديث المكثف عن "مكافحة الإرهاب والتطرف" طمعاً في الحصول على إشادات غربية.
ليس مفاجئاً بالتالي أن يتقارب الحكام المستبدون مع حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة بمعزل عن شعوبهم التي لا يستشيرها أحد بشأن هذه التوجهات أو ما قد يترتب عليها من اتفاقات وخطوات، فهذه الشعوب ينبغي إخضاعها لخيارات مفروضة عليها من قصور الحكم المحاطة بحراسة مشددة، أما الشعب الفلسطيني فسيقع تجاهل حقوقه وقضيته المركزية في المنطقة مع التعمية على ذلك بإطلاق مسار تفاوضي شكلي ورسم الابتسامات المتفائلة خلال حفلة جديدة من المصافحات بين المفاوضين.
للقلق ما يبرره أيضاً لأنّ الصفقات السابقة بين أطراف عربية والحكومات الإسرائيلية خلال أربعة عقود لم تحقق العدالة بل ساعدت عملياً على استدامة الاحتلال وترسيخ وجوده، مع مواصلة حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الأساسية وضمان الهيمنة الإسرائيلية العسكرية والسياسية والاقتصادية عليه.
لتمرير "صفقة" كهذه يجب كبت إرادة الشعوب العربية التي قررت أنظمتها الاندفاع إلى هذه المتاهة الجديدة. ينبغي بالتالي منع الشعوب من التعبير عن مجرد الشك في التوجهات المعتمدة، وما يجري على الأرض يعزز ذلك، فالعالم العربي يشهد موجة استبدادية وقمعية صاعدة تصاحبها ردة واسعة عن مكتسبات الانفتاح الإعلامي وحريات التواصل عبر الشبكات التي تحققت في سنوات مضت. تباشر السلطات الحالمة بـ"صفقة القرن" الهيمنة المباشرة على وسائل الإعلام الخاصة، مع فرض مضامينها المحددة في مواقع التواصل الاجتماعي من خلال قوانين مشددة لردع كل من يخالف الرواية الرسمية ولو بالتلميح، بالإضافة إلى تجنيد "جيوش إلكترونية" لإغراق الشبكات بمحتويات دعائية مكثفة على مدار الساعة لصالح الحاكم ونظامه كي يبدو أنّ الشعوب راغبة تماماً بكل ما يتم فرضه عليها.
تؤكد الإشارات المتضافرة إلى "صفقة القرن"، سواء كانت الصفقة حقيقة أو وهماً، أنّ لعبة التلاعبات الغامضة بالمصائر تتواصل في هذه المنطقة الملتهبة، بمعزل عن المصارحة والشفافية واحترام القانون الدولي والحقوق والحريات الأساسية. والنتيجة في أفضل حالاتها لن تكون سلاماً بل تغذية الأزمات القائمة وتفجير الأوضاع المتفاقمة تحت السطح أيضاً.
ولن تنعقد صفقة كهذه إلا بالضغط على القيادة الفلسطينية الضعيفة لإرغامها على كتم آلامها وعدم الصراخ مما يجري فرضه عليها وعلى المنطقة. ومن الواضح أنّ الضغوط قد بدأت، كما يتضح في التوجه الأمريكي لإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الولايات المتحدة.
لكن في النهاية؛ من الوهم الافتراض بأنّ مشروعاً يتم إبرامه على الورق بين قادة متغطرسين وطائشين مثل ترامب ونتنياهو وبعض الزعماء العرب، ولو تم وصفه بـ"صفقة القرن"؛ سينجح حقاً في تحقيق ما عجز عنه قرن كامل من المشروعات والصفقات التي تجاوزت حقائق جوهرية قائمة في المنطقة، أولها أنّ هناك شعباً حياً يحمل قضيته ولم يقرر الإذعان، اسمه الشعب الفلسطيني.
حسام شاكر