دولي

أبو هنود يصطاد الجنود

القلم الفلسطيني

في مثل هذه الأيام قبل نهاية الألفية الثانية وبداية انتفاضة الأقصى بأسابيع قليلة، وفي ليلة الخامس والعشرين من آب عام 2000 تحديداً، تسللت تحت جنح الظلام، قوة من وحدة الدوفدفان الإسرائيلية المختارة لبلدة عصيرة الشمالية، محاولة اعتقال أو اغتيال قائد القسام في الضفة محمود أبو هنود، المطلوب رقم واحد للمخابرات الإسرائيلية بتهمة تنفيذ عدد من العمليات، كان آخرها التفجير المزدوج في سوق “محينا يهودا” في القدس منتصف العام 1997، والتي نفذها أربعة من أبناء البلدة، إضافة للشهيد خليل الشريف.

لازلت أتذكر صوت هدير الطائرات العمودية وهي تحلق في سماء جبل عيبال القريب من البلدة، فيما بدت سماء المنطقة مضيئة بفعل قنابل الإنارة، كنت أرقب المشهد من شرفة منزلنا فيما كانت عيني الثانية على قناة الجزيرة تنقل الأخبار العاجلة أولاً بأول.

حاصرت القوات الإسرائيلية أحد المنازل ثم طلبت عبر مكبرات الصوت من أبي هنود تسلم نفسه، غير أنه نجح في الإفلات من قبضتهم بعد أن قتل ثلاثة وجرح تسعة من “نخبتهم الورقية”، فيما أصيب هو بجراح متوسطة.

ضغط أبو هنود على جراحه وواصل سيره عبر جبال ووديان القرية التي كانت تعرفه جيداً، كانت الأرض تطوى من تحت قدميه، فيما أخذت الاشجار تسانده ويتكأ عليها.. الصخور كانت له خير درع وحامي، أنفاس الليل كانت تغطي على أنفاسه القوية، أما الليل فضاعف من سواده وحجب القمر بعضاً من ضيائه.. كانت الأشياء من حوله تشد أزره وتدعوه لمواصلة الهرولة.. كانت تقول له اياك أن تسقط.. واصل المسير.. لا تشمت بنا الأعداء..

ومع ساعات الفجر وصل أبو هنود نابلس، وهناك سلم نفسه للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وبدل مكافئته ومنحه أوسمة الشرف والرتب العسكرية أو إطلاق سراحه على أقل تقدير، أصدرت محكمة “شكلية” بحقه حكماً بالسجن 12 عاماً بتهمة مقاومة الاحتلال وحيازة أسلحة غير مشروعة، بدا أبو هنود واقفاً في قاعة المحكمة ممسكاً بالقضبان الحديدة كما الزناد وإلى جانبه عسكريان، كان مبتسماً ومرتدياً بدلة زرقاء، كان واثقاً أنه لن يمكث في سجنه طويلاً وسيعود لمكانه الطبيعي في ساحات النزال..

بقي أبو هنود معتقلاً في سجن مقاطعة نابلس شرق المدينة، وخلال فترة احتجازه هناك اعتاد والدي وعدد من قيادات الحركة الإسلامية على زيارته في سجنه للإطمئنان عليه ومؤازرته وشد عضده، وفي إحدى هذه الزيارات بدأ والدي بالحديث مع والدي أبو هنود يرفع معنوياتهما ويحثهما على الصبر، مخاطباً والدته:”يا حجة ابنك بين أهله وإخوانه ماكل شارب نايم، (قالها متهكماً مستهزءاً بالطبع)، رفعت الوالدة يديها إلى السماء وقالت على مسامع قادة الأجهزة الأمنية:”الله يجعل هالسجن خرابه.. دار الظالمين خراب”.. دارت الأيام وبعد أشهر قليلة من اندلاع انتفاضة الأقصى شنت طائرات حربية إسرائيلية من نوع F16 غارة على مقر المقاطعة مستهدفة القسم الذي كان يتواجد فيه أبو هنود، غير أنه نجا من الموت بأعجوبة، حيث شُوهد يخرج من تحت الأنقاض ومن بين الركام وقد بدا أبيضاً من الغبار كبطل يكمل جزئه الثاني في مشهد سينمائي هوليودي.

أسفرت عملية القصف عن استشهاد أكثر من 15 من عناصر قوات الـ 17، لازلت أتذكر في ذلك اليوم مشهد الجرافات وهي تنتشل جثث الشهداء والجرحى، كانوا كإبرة في كومة من الدمار، في حين تجمع آلاف المواطنين في المكان، وهو ما منع قائد الطائرة الثانية من اللقاء صاروخ آخر على السجن.

بعد عدة أشهر تمكنت الطائرات الإسرائيلية من اغتيال أبو هنود بالقرب من بلدة طلوزة القريبة من نابلس، كان ذلك في شتاء العام 2001 بعد أكثر من 7 سنوات من المطاردة تمكن خلالها من إيقاع الأذى بالاحتلال ووحداته المختارة… استشهد أبو هنود بعد أن أصابه صاروخ بشكل مباشر عندما حاول الترجل من سيارته فحوله والأخوين حشايكة إلى أشلاء، هذه الأشلاء كانت أشبه ببذور جهاد تناثرت في أودية وجبال ونابلس، نمت البذور فيما بعد وتحولت إلى أشجار مباركة، ألم يقولوا إن حبوب سنبلة تموت ستملئ الوادي سنابل؟؟.

في اليوم التالي خرج الآلاف على دوار نابلس في وداع البطل، دون أن يكترثوا لغزارة المطر وبرودة الشتاء، وُضعت بقايا جسده في صندوق لُفَّ براية التوحيد وصور له وهو يحمل الـ M16 القصيرة على كتفه، واقفاً حيناً كالطود الأشم وجالساً حيناً كالليث المتأهب، كان النعش متمايلاً بين الأيدي وكأنه قارب يجري في بحور دموع المودعين، كان خفيفاً متنقلاً بسهولة بين أيدي المشيعين، إلا أنه كان ثقيلاً بالعز راسخاً بالفخار، ترجل الرجل بعد رحلة طويلة حافلة بالمقاومة، كان لسان حاله يقول:”أخي إن صدقت محبتي فاحمل سلاحي”.

في ذات اليوم، شاهدت صديقي وزميلي في الجامعة الشهيد عاصم ريحان ابن قرية تل، كانت عيونه فائضة بالدمع حزناً، محمرّة كالجمر، عانقني عناقاً شديداً وهمس في أذني متوعداً بالثأر، قالها بالعامية :”والله لنفضح عرضهم”، لم أكترث لهذه الكلمات وظننت أنه قالها في ساعة حمية كحال بقية المشيعين الغاضبين، غير أن الرجل كان أول الثائرين لدماء أبو هنود، بعد عدة أيام من اغتياله في عملية مستوطنة “عمونئيل الأولى”.. وبرّ الريحان بوعده.

وفي العام 2006 أكملت الجرافات الإسرائيلية تدمير وتجريف ما تبقى من مقر المقاطعة وسوته بالأرض لتصدق بذلك دعوة والدة أبو هنود، لست شامتاً ولا متشفياً بالطبع، ولكنها دعوة المظلوم التي ليس بينها وبين الله حجاب.

أحمد البيتاوي

 

من نفس القسم دولي