دولي

التغلغل الإسرائيلي بأفريقيا بين الأمن والأخلاق

القلم الفلسطيني

في خطوة غير مسبوقة؛ تعقد دولة الاحتلال الإسرائيلي مع ما يقارب 25 دولة أفريقية قمة -هي الأولى من نوعها على هذا المستوى الرفيع- بجمهورية توغو، في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017.

ورغم أن القمة لا تشكل في حد ذاتها التحرك الأول لإسرائيل نحو القارة الأفريقية، إذ بدأت إسرائيل بالوجود فعليا في القارة منذ خمسينيات القرن العشرين؛ فإن هذه الخطوة تحمل دلالات مهمة تتعلق بحجم التحرك وأبعاده، وتعكس رغبة دولة الاحتلال الإسرائيلي في تعظيم مكانتها الدولية.

فبينما كانت علاقات "إسرائيل" في السابق تأخذ طابع التعامل الثنائي مع الدول الأفريقية، إذا هي اليوم تأخذ الطابع الإجمالي؛ الأمر الذي يدعم الصورة التي تحاول "إسرائيل" ترسيخها بشأن شرعيتها ومدى قبولها الدولي.

وتسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي -من خلال مبادرتها بعقد هذه القمة- إلى إضفاء شيء من الدبلوماسية الناعمة على تاريخ طويل من تدخلاتها المشبوهة في القارة الأفريقية، حيث ساهمت -بشكل غير مباشر- في تأجيج الصراعات والنزاعات، وتعزيز حالة عدم الاستقرار في المنطقة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ خرقت "إسرائيل" حظر السلاح الدولي في روندا خلال النصف الأول من تسعينيات القرن المنصرم إثر الحرب الأهلية التي كانت دائرة هناك، حيث قامت "إسرائيل" بتوريد الأسلحة لعرقية "الهوتو" ذات الأغلبية في البلاد، والتي ارتبكت مجازر راح ضحيتها عشرات الآلاف من أقلية "التوتسي".

"تسعى دولة الاحتلال الإسرائيلي -من خلال مبادرتها بعقد القمة الأفريقية الإسرائيلية- إلى إضفاء شيء من الدبلوماسية الناعمة على تاريخ طويل من تدخلاتها المشبوهة في القارة الأفريقية، حيث ساهمت -بشكل غير مباشر- في تأجيج الصراعات والنزاعات، وتعزيز حالة عدم الاستقرار في المنطقة"

كما ساهمت "إسرائيل" -بطريقة غير مباشرة- في مذبحة قبيلة "النوير" التي وقع ضحيتها العشرات من المدنيين بعاصمة جنوب السودان جوبا عام 2013، وذلك بتزويدها القوات الحكومية ببنادق من طراز "ACE" إسرائيلية الصنع رغم الحظر الدولي.

ولا يخفى الدور الإسرائيلي القذر في تجارة الألماس التي وصفها تقرير صادر عن الأمم المتحدة بأنها التجارة الدموية التي تسبب انتهاكات هائلة لحقوق الإنسان يروح ضحيتها الآلاف من الأفارقة.

وتشكل تجارة الألماس ما نسبته 30% من دخل "إسرائيل" القومي، حسب إحصائيات 2011، في حين بلغ حجم تجارة الألماس الإسرائيلية عام 2014 ما يقارب 9.2 مليارات دولار؛ يذهب منها مليار دولار سنوياً لخزانة وزارة الدفاع الإسرائيلية.

كما تسعى "إسرائيل" -عبر هذه القمة وغيرها من التحركات في القارة الأفريقية- إلى كسر الإجماع الأفريقي الداعم للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية.

وقد عبر عن هذا الهدف بشكل صريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عندما وضع معادلة بسيطة تقوم على أساس امتناع الدول الأفريقية عن التصويت لصالح القضية الفلسطينية، مقابل إبرام عقود في التنمية الاقتصادية والتعاون الأمني بين "إسرائيل" والدول الأفريقية المعنية.

فإسرائيل تعي جيداً ثقل الصوت الأفريقي في المنظمات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، وذلك بسبب عدد دول أفريقيا الكبير البالغ 54 دولة، ولا شك أن نجاح "إسرائيل" في تحييد الصوت الأفريقي أو اكتسابه لصالحها سيُعدّ انتصاراً دبلوماسياً، تحاول به "إسرائيل" التعويض عن الخسائر الدبلوماسية التي لحقت بها في جبهات أخرى.

وذلك في ظل اشتداد حملات المقاطعة الدولية ضدها، وتبنّي بعض المؤسسات الدولية وجهة النظر الفلسطينية في الصراع كما حدث مؤخراً في منظمة اليونسكو الأممية، عندما أدرجت مدينة الخليل على لائحة التراث العالمي؛ في خطوة أغضبت "إسرائيل" التي أعلنت مباشرة بعد هذا القرار وقف التمويل المقدم من طرفها للمنظمة.

كما لا يمكن عزل التحركات الإسرائيلية هذه عن الهدف الاستراتيجي الذي لم يغب مطلقاً عن ذهنية صانع القرار في دولة الاحتلال، والمتمثل في ضرب طوق من النفوذ والتأثير في المناطق التي تشكل تقليدياً الفضاءات الحيوية للدول العربية.

فرغم معاهدات السلام التي وقعتها دولة الاحتلال الإسرائيلي مع بعض الدول العربية، ودعوات التطبيع معها التي بدأت مؤخراً تأخذ طابعاً علنياً من قبل دول عربية أخرى؛ فإن صانع القرار في إسرائيل ما زال ينظر إلى الدول العربية كمصدر تهديد حقيقي لوجود دولة الاحتلال.

ولذلك تُعدّ جميع المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى احتواء الدول العربية، وإثارة الفوضى فيها أو اشغالها عبر مزيج من الحروب الأهلية والصراعات الخارجية؛ ذاتَ أهمية إستراتيجية في العقلية الأمنية الصهيونية.

"إن تضحيات شعوب أفريقيا في سبيل نيل استقلالها وحريتها تتنافى مع الترحيب بدولة الاحتلال الإسرائيلي على أراضيهم، وهي الدولة التي تشكل الامتداد التاريخي للاستعمار الغربي. وإذا كانت الهواجس الأمنية حاضرة بقوة عند الحديث عن التغلغل الصهيوني في الدول الأفريقية، فإن الجانب الأخلاقي يجب ألا يغيب هو أيضا عن حساباتنا"

وقد برزت في سبيل ذلك منطقة حوض النيل كأولوية في العقلية الإستراتيجية الإسرائيلية، حيث كانت الدول الذي تتكون منها منطقة حوض النيل من أولى الدول التي سعت إسرائيل للتغلغل فيها وبناء علاقات معها. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير باتباع الدبلوماسية الناعمة، من خلال توظيف الوكالة الإسرائيلية للتعاون الدولي في مجال التنمية، التي تعرف اختصارا باسم "الماشاف".

ومن اللافت للانتباه أن وزارة الخارجية الإسرائيلية تعلن -على موقعها الرسمي- أن الأولوية في خدمات "الماشاف" تكون لإثيوبيا وغانا وكينيا ورواندا وأوغندا وجنوب السودان والسنغال. ويمكن ببساطة ملاحظة أن كل هذه الدول تنتمي إلى منطقة حوض النيل، باستثناء السنغال وغانا.

ولا شك في أن الوجود الإسرائيلي في منطقة حوض لنيل يشكل ضغطاً حقيقياً وخطيراً على الأمن المائي لدولة مصر ذات الأهمية الكبرى للأمن القومي العربي ككل.

إن تلاعب دولة الاحتلال الإسرائيلي بأفريقيا لا يشكل تهديداً للدول العربية فقط، بل يشكل أيضا تنكراً للتاريخ النضالي الكبير لهذه القارة التي عانت على مدى قرون من الاحتلال الأجنبي والاستغلال الاستعماري.

إن تضحيات شعوب أفريقيا في سبيل نيل استقلالها وحريتها تتنافى مع الترحيب بدولة الاحتلال الإسرائيلي على أراضيهم، وهي الدولة التي تشكل الامتداد التاريخي للاستعمار الغربي. وإذا كانت الهواجس الأمنية حاضرة بقوة عند الحديث عن التغلغل الصهيوني في الدول الأفريقية، فإن الجانب الأخلاقي يجب ألا يغيب هو أيضا عن حساباتنا.

هشام أبو محفوظ

 

من نفس القسم دولي