دولي
حواجز وفلاتر الاحتلال
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 12 جوان 2017
بعد غياب قسري دهرًا من الزمن لم أرَ فيه الحواجز ولم أتمرمر منذ زمن جسديًّا ولا نفسيًّا على مرمى السلاح للجندي الإسرائيلي الذي يقف متربصًا وحاملًا الموت لكل من لا يروق له .. الأمور تختلف اليوم وقد طوروا حواجز الموت هذه تطويرا كبيرا..
قصدت السفر من بيت لحم إلى القدس يوم الجمعة بعد أن سمعت بأن هناك تسهيلات قد أعلنت عنها سلطات الاحتلال: "يُسمح لمن هم فوق الخمسين الوصول للقدس وشد الرحال هناك، وذلك كل يوم جمعة من رمضان.. يعني هذا أربعة أيام في السنة نصيب الفلسطيني الذي تجاوز الخمسين، فإذا وزعناها على كل الأعمار فكم يحظى الفلسطيني؟ وكم نسبة هذا النصيب من نصيب الإسرائيلي المفتوحة له القدس طيلة العام.. لا تقل عنصرية .. ابلعها واهتبل الفرصة، وسارع إلى القدس..
ساروا بنا على طول جدار عالٍ يعتليه جدار من الأسلاك الشائكة مسافة طويلة سيرًا على الأقدام أفضى بنا إلى ساحة فيها شرطة فلسطينية تراقب المكان ولا تفعل شيئا.. وجدنا أنفسنا في ثلاثة مسارب يأتيها الناس من كل فج ليُفلتروا ويُدفعوا على بوابة المسارب كالمحقان الذي يصب الزيت في فوهة القنينة.. ويقف على بوابة نهاية المسرب مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح ليعيدوا كل من لا تنطبق عليه الشروط .. الأطفال الذين تجاوزوا الثانية عشرة تمت إعادتهم بفظاظة.. تنزعهم من آبائهم وأمهاتهم ويجتهد هؤلاء في ابتكار الحجج التي تثبت طفولتهم دون فائدة ..
ويبتسم بمرارة كل من أسعفه تقدمه في السن من العبور.. هنا ما لا يوجد في العالم كله.. يفرح المسن بتقدمه في السن، ويتجرع ألم مشاهد الإرجاع من قاع القنينة إلى بوابتها الضيقة لكثير من أبناء وطنه الذين يُحرمون من قدسهم ولا تراعى قداسة هذه الأيام الفضيلة في عرف هذا الاحتلال البغيض.. ابلع ريقك واهتبل فرصة أن شفع لك سنك وسارع إلى القدس.
ويغذّ المسنّون خطواتهم كأنهم حمر مستنفرة ويتقاسم قلوبهم شعور الحنين للقدس مع مشاعر السحق والإذلال وتجرع المهانة.. تبدو لهم القدس قد أصبحت قريبة لولا أنهم يجدون أنفسهم في طريق صاعد بين سورين عاليين.. تضيق تدريجيًّا ليجدوا أنفسهم في مسرب يفضي إلى فوهة محقان جديد يقف نهايته جنود يجيدون الفحص الإلكتروني واليدوي والتدقيق في الهويات من جديد..
وقبل الخروج من الفلترة الثانية تجد من الزبانية من يفرز.. البعض يدفع إلى حيث ما بات معروفا "بالمعّاطة".. الكلمة التي نحتتها طريق الآلام الفلسطينية.. والبعض الآخر الأكبر سنًّا يدفع إلى طريق التفافية تتجاوز المعّاطات كشعور إنساني نبيل مع هذه الفئة المسكينة! تجاوز المعاطة واهتبل هذه الفرصة، وسارع إلى قدسك يسّر الله دربك.
ثم إن فوهة هذه المسارب التي جعلت كمزارب الغنم تقوم بالطلق الاصطناعي لتلد منها المسنين الفلسطينيين من جديد فتدفعهم أشواقهم نحو القدس.. إلا أنهم وجدوا أنفسهم من جديد في ساحة تتصدرها بوابة حديدية ضخمة يقف على سدانتها ثلة من سدنة الفلاتر البشرية.. يحتجزون الناس بعيون حاقدة ويقومون بتمثيل مسرحية لئيمة.. يدعون فيها تنظيم المرور كما تدعي الذئاب حراسة الغنم.. يوقفونك في الشمس الحارقة ما حلا لهم وكي تقف مؤدبًا في حضرة الاحتلال وتتشرب هيبته ورهبته والخشية من أية خربطة لعجينه الأسود.. ويفتح لكل دفعة يسعفها الحظ الخلاص من هذه الفلترة الثالثة في ذات المكان..
وتسير الحافلات بركابها الذين يملؤهم الحنق والغيظ ويرتوون القهر حتى الثمالة.. ينظرون من النوافذ إلى الشوارع المؤدية إلى القدس فتلتقط عيونهم النوع الثاني من البشر، حيث يسافرون بدلال وترفل حافلاتهم البهجة وتعلو وجوههم نضارة لا تجدها في وجوه من يشاطرونهم ذات الحافلة.. هذا النوع الثاني من البشر لا يمرون عبر الحواجز ولم يسمعوا شيئًا عن الفلاتر.
فقط ينظرون في وجه الفلسطيني ويتساءلون: لماذا يبدو الفلسطيني غاضبا متجهمًا.. لماذا لا يبتسم ويبدو سعيدا خاصة هؤلاء الذين يبدو أنهم قد دخلوا سن التقاعد وراحة الشيخوخة؟؟
وهناك عدة فلاتر على بوابات القدس وبوابات الحرم.. لا يتنفس الفلسطيني الصعَداء إلا إذا دخل ساحة الحرم ووقر في صدره أنه قد قاومهم بصمته وصبره وإصراره على قدسه مهما كان ذلك قاتلًا وشاملًا لكل صنوف العذاب.
الأسير الهودلي