دولي

فلسطينيو الخارج" وتحديات ما بعد التأسيس

**القلم الفلسطيني

على قدر ما كان مؤتمر "فلسطينيي الخارج" المنعقد في اسطنبول يومي (25 ـ 26) من الشهر الماضي، حاشدا وحافلا ومبشرا، على قدر ما ستكون تحديات ما بعد التأسيس الحاشد والمتوهج مربكة ومزعجة، بل ربما تكون مقعدة ومفسدة. فالمؤتمر تخطى مرحلة التأسيس والانطلاق بنجاح منقطع النظير، وكانت فعالياته شيقة ومؤثرة ومهيجة وثرية، فثمة زخم كبير في الكلمات والندوات والفعاليات، وحضور جماهيري حاشد من مختلف الأعمار، رجالا ونساء، شيوخا وشبابا وأطفالا، كلهم يحدوهم الأمل بالعودة والرجوع إلى فلسطين المباركة، ويشدهم الحنين إلى أرض الوطن المغتصب. لكن الأعمال العظيمة المؤسِّسة، إن توافرت لها الرؤية الواضحة، وتهيأت لها المناخات المشجعة للانطلاق والمضي قدما في طريق البناء والتكوين، فإنها تصطدم بعقبات كبيرة، وتعترضها تحديات جسيمة، تتضافر كلها أو بعضها لتحرف مساراتها عن الخط المرسوم لها، ولتدخلها في دهاليز العمل المفرغ من مضامينه التي قامت لإنجازه وتحقيقه. هنا في هذا المقام، لا يصلح إلا الكلام الواضح والمباشر، فالقضية الفلسطينية عبر محطاتها منذ النكبة ثم "النكسة"، وبعد نشوء الفصائل الفلسطينية المتعددة، والتي لم تسلم (في غالبها) من تأثير الضغوط العربية والإقليمية، وكانت مساراتها في غالبها تتحدد وفق حسابات ومعادلات عربية وإقليمية، الأمر الذي سلبها استقلالية سياساتها وقراراتها، وجعلها أداة طيعة تحركها أطراف مختلفة عربية وإقليمية. باستحضار ذلك كله، فإن تحديات المحافظة على استقلالية السياسيات والقرارات لأي كيان وليد يروم خدمة القضية الفلسطينية، ويسعى لتحريك مياهها الراكدة، تبقى تحديات جدية وحقيقية، لذا فإن من أكبر التحديات التي ستواجه مؤتمر "فلسطينيي الخارج" مدى قدرة هيئته التأسيسية، وما أفرزته من قيادات اضطلعت بمهام المناصب القيادية للمؤتمر، على صيانة المؤتمر من الوقوع في أوحال التجاذبات الإقليمية، والخضوع للإملاءات العربية والإقليمية، يضاف إلى ذلك آفة "الفصائلية"، التي فرقت الشعب الفلسطيني، وجعلته أحزابا وشيعا، وقسمته مناطقيا وجغرافيا بما زاد من شقة الانقسامات والتشرذمات، ووسّع الهوة بين أبناء الشعب الواحد. كم أضرّت تلك الفصائلية البغيضة بالقضية الفلسطينية، وكانت سببا قويا في نفور كثير من أنصارها ومحبيها في العالمين العربي والإسلامي عن متابعة شؤونها، والاهتمام بأحداثها وأخبارها، وتقديم الدعم الواجب لها؟ ولسان حالهم يقول إذا كان أصحاب القضية الأصلاء لم يترفعوا عن سفاسف الأمور، ويرتفعوا إلى مستوى التحديات الوجودية الكبرى، فماذا يريدون منا نحن وهم الذين طعنوا بانقساماتهم في خاصرة القضية، ووجهوا لها سهاما مسمومة مهلكة؟. ثالث تلك التحديات التي ستعترض سبيل المؤتمر، مصادر التمويل، وهذا هو المشكل الحقيقي الذي لطالما قيّد الحركات وضبط إيقاعها على ألحان الممولين، فمن يدفع يتحكم في السياسات والمسارات، ويضغط لتحقيق الأهداف التي يريدها ويسعى إليها، وهو وإن لم تظهر غاياته واضحة جلية، إلا إنه يتخفى وراء أهداف نبيلة، ويتستر بعناوين براقة كخدمة القضية المركزية، والإعلاء من شأن المقاومة، وبعث الأمل وتجديده للتشبث بالأرض والوطن. لا يوجد ممول يدفع أمواله على سبيل الصدقات والهبات في العلاقات السياسية، بل كلها أموال موجهة لغايات وأهداف محددة، ففي الصراعات الإقليمية المشتعلة في المنطقة، خاصة الطائفية منها، يسعى كل طرف لاستثمار القضية الفلسطينية بما لها من مكانة وقدسية، ودغدغة عواطف أبنائها خاصة فلسطينيي الشتات منه، لتحقيق أهدافه وغاياته. المؤتمر كان تظاهرة جماهيرية حاشدة، وكان فلسطينيو الشتات الذين توافدوا على اسطنبول من نحو خمسين دولة في العالم يراودهم حلم العودة إلى الوطن، ويملؤهم الحنين إلى فلسطين، مستبشرين بهذا المؤتمر خيرا، آملين أن يكون فاتحة خير، وبارقة أمل لتكون لهم كلمة في تحديد مصير القضية ومساراتها، وألا يفجعوا بانحراف البوصلة، كما فجعوا من قبل بانحرافات الثائرين الأوائل الذي حولوها من أعظم ثورة نضال وتحرر إلى خادمة للاحتلال، وحارسة لوجوده وبقائه.

بسام ناصر

 

من نفس القسم دولي