دولي

فلسطين والحريق العربي

**القلم الفلسطيني

ثمّة سؤال حارق للعقل والعاطفة وللتفكير معاً، لم يُجب عنه المؤتمر السابع لحركة فتح هو: هل ما برحت فلسطين قضية العرب الأولى؟ والإجابة كانت بدهية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، لكنها صارت اليوم متسربلةً بالشكوك والتساؤلات، بعدما قطَّعوا أوصالنا بالطائفية والمذهبية في معمعان سعيهم إلى القضاء على جوهر الفكر القومي العربي التقدمي. وفلسطين هي خلاصة الحركة القومية العربية التي بدأتْ بواكيرها في القرن التاسع عشر، واكتملتْ أفكارُها في القرن العشرين. وخلاصة الفكر القومي العربي تعني، فيما تعني، مواجهة الاستعمار بالوحدة، ومواجهة الصهيونية بتحرير فلسطين، وردم الفجوة العلمية بيننا وبين الأمم الأخرى، بالنهضة والتقدم والعلم، والتغلب على الانقسامات الاجتماعية بالاندماج الوطني، من خلال المساواة والمواطنة والديمقراطية والحريات. وفي هذا الميدان، كانت إسرائيل هي التحدّي القومي الكبير الذي ظهر على أرضنا في سنة 1948، وأعاق الوحدة والتقدم والاندماج الاجتماعي، ولا سيما في الدول العربية المحيطة بفلسطين التي وجدتْ تحدياً مصيرياً، ينتصب أمامها، وهي خارجة للتو من ربقة الاستعمار.  الصراع في فلسطين فريد حقاً، وهو لا يشبه غيره من قضايا الأمم، خصوصاً حركات التحرّر الوطني المشهورة، مثل الجزائر أو فيتنام أو جنوب افريقيا. 

وشعب فلسطين هو آخر شعب في العالم ما زال يرزح تحت الاحتلال. فما السبب؟ السبب هو أن الصهيونية نفسها ليست كأي احتلال استعماري آخر، فهي حركة استيطانية وإحلالية، أي أنها أحلّت مجموعاتٍ بشريةً محل شعب آخر، وعملت على تحويل تلك المجموعات إلى شعب، في الوقت الذي تحوّل فيه الشعب الفلسطيني إلى جموع لاجئة.  الاستعمار الفرنسي مثلاً لم يُرحِّل الجزائريين، بل أراد فرنستَهم وإلحاقَ الجزائر بفرنسا. والفرنسيون، ثم الأميركيون من بعدهم، لم يرحِّلوا الفيتناميين عن أرضهم، بل استعمروهم بالاحتلال المباشر. واستعبد الأوروبيون البيض شعوب أفريقيا الجنوبية، وأقاموا نظام الفصل العنصري، لكن المواطنين ظلوا في ديارهم. 

وحين هبت تلك الشعوب في سبيل حريتها قدّمت طرازاً مدهشاً من النضال والثبات على المبادئ التحرّرية. وفي النهاية، أسقط السود العنصرية، وطرد الجزائريون والفيتناميون الاستعمار من ديارهم. أما في فلسطين، فالأمور جرت على  نحو مغاير؛ فقد كان أمام المستعمرين الصهيونيين خيار من اثنين: إما الإبادة على طريقة الهنود الحمر في أميركا أو الترحيل. ولمّا كانت الإبادة مستحيلةً في أوضاع تلك الفترة، فقد عمدت الحركة الصهيونية إلى الترحيل. لكن الفلسطينيين لم يُرحّلوا إلى القطب الشمالي، بل إلى أرضٍ عربية، ليحتضنهم أشقاؤهم العرب، ويقيموا قريباً من فلسطين. ولمّا أنجدتهم أحوالهم، خاضوا النضال بأشكاله المختلفة، ومارسوا ثلاث استراتيجيات خلال خمسين سنة: مارسوا الكفاح المسلح من الحدود العربية، فتمكّنوا من تحويل جموع اللاجئين إلى شعبٍ يتصدّى لحريته. ثم خاضوا المفاوضات السياسية، استناداً إلى أوراقهم التي جمعوها في سياق كفاحهم المسلح المديد، فتوصلوا إلى سلطةٍ محدودةٍ تحت الاحتلال. واليوم، يجري العمل على تدويل قضية فلسطين، مع أن قضية فلسطين عربية أولاً وآخراً، وليست قضية دولية، وأعتقد أن التدويل لن ينجم عنه أي نتيجة.

لم يتمكّن الكفاح المسلح من تحرير فلسطين، ولم تصل المفاوضات إلى الخواتيم المرجوّة، وهي في الحد الأدنى، دولة مستقلة على الأراضي التي احتُلت في عام 1967، وحل مشكلة اللاجئين، على أن تكون القدس عاصمة الدولة المقترحة. وتبدو حتى هذه الأهداف مستحيلة اليوم. لماذا؟ لأن العرب ما برحوا منذ هزيمة حزيران/ يونيو 1967 يتدحرجون في مسار انحداري. وواهمٌ من يعتقد أن الفلسطينيين وحدهم قادرون على تحرير بلادهم. إنهم رأس الحربة، أما القوة الفاعلة في التحرير فهي العرب، فيما لو امتلكوا العدّة والإرادة والرؤية والاستراتيجية. لكن العرب اليوم، وأقصد عرب المشرق (لبنانيون وسوريون وعراقيون وأردنيون ومصريون) واقعون بين لجام ومهماز وخنجر: لجام الفكر الرجعي المعادي لأي نهضةٍ وتقدم، ومهماز الاستبداد العربي، وخناجر الجماعات الإرهابية الجديدة التي لا تختلف في سلوكها الوحشي عن الضباع المقروحة الداشرة.

وفي هذا الاضطراب العميم، تكاد الحركة الوطنية الفلسطينية تندثر تماماً كقوة تحرير. أما التكفيريون، وحتى بعض الجماعات الإسلامية التقليدية، فلا يقيمون للأرض أي قيمة خاصة، فقضية فلسطين لديهم مجرد واحدة من قضايا المسلمين ليس أكثر. وها نحن نشهد جميعنا تدمير المجتمعات العربية، وخروج جماعات رثّة من كل حدبٍ وصوبٍ لتتسيد الحياة اليومية للعرب. وفي معمعان هذه الكارثة، صارت قضية فلسطين في أدنى حضور لها. وكيف لا تكون على مثل هذا الهوان، بعدما صارت إسرائيل حليفةً حقيقيةً لبعض البلدان العربية.  يقول مئير داغان، الرئيس السابق للموساد: "إسرائيل مثل العشيقة السرية. الجميع يستمتع بالعلاقة معها، ولا أحد يعترف بذلك". 

لكن، لم يطلِ الزمنُ كثيراً، حتى افتُضح الأمر وانتقل من السر إلى العلن، وكانت ابتسامة اللواء السعودي، أنور عشقي، مع المسؤول في وزارة الخارجية الإسرائيلية، دوري غولد، تشي بغرام قديم من دون خجل.

صقر أبو فخر 

 

من نفس القسم دولي