دولي

معركة الأشجار

القلم الفلسطيني

 

 

اشتعلت النار في العديد من المناطق في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتركز أكثرها في منطقتي سلسلة جبال الكرمل وفي سلسلة جبال القدس، وهي مناطق ذات كثافة كبيرة في الغابات الحرجية، وهي مناطق تكثر فيها الحرائق كل بضع سنوات، وحدث أن استعانت دولة الاحتلال بدول وبجهات أخرى لمساعدتها في محاصرة تلك الحرائق في حينه.  لاشتعال الحرائق في الغابات أسباب كثيرة؛ منها عوامل وتفاعلات طبيعية لا دخل ليد الإنسان فيها وفي تصاعدها وانتشارها، وهذا ثابت علميا، وهناك أسباب مرتبطة بالإهمال من قبل المتنزهين في تلك المناطق التي قد تتسبب بكوارث بيئية، وهناك تجار الحطب والفحم الذين يسعون من وراء ذلك إلى الاحتطاب والربح المادي البحت، وهناك التدريبات العسكرية التي تنقل بعض التقارير أنها سببت بعض تلك الحرائق، وهناك أسباب أخرى مختلفة.

أما استخدام وإتلاف الأشجار كعمل حربي فهو شائع قديما وحديثا أيضا، وهناك العديد من الشواهد على ذلك من التاريخ، ولحصر الموضوع في الجغرافيا الفلسطينية من المهم تسليط الضوء على توسع الحركة الصهيونية في استخدام موضوع الأشجار _زرعا وحرقا واقتلاعا_ كمجهود حربي يغرس أقدام الاحتلال ويقتلع جذور الفلسطينيين من وطنهم ويهجرهم منه. فقد بنت الحركة الصهيونية استراتيجيتها في الزراعة في الأراضي التي تسعى إلى تهويدها على زراعة أشجار حرجية تغير الطبيعة الزراعية الفلسطينية وتحاصرها، فجلبت أصنافا من الأشجار من الخارج وعممت زراعتها لخدمة أجندتها الدعائية والأيديولوجية والاستيطانية والعسكرية. كما عملت العصابات الصهيونية ودولة الاحتلال على هدم القرى الفلسطينية وزراعة الأشجار الحرجية مكانها لإخفاء معالم الجريمة التي اقترفتها أيديهم، وقد وردت تفاصيل تلك الجرائم في العديد من التقارير والفيديوهات المصورة لبعض مقاتلي العصابات الصهيونية، والذين تحدثوا بإسهاب عن تدمير مئات القرى الفلسطينية وخلع أهلها منها وزراعة الأشجار مكانهم، فمن يخلع البشر والحجر والحيوان لن يكون _يوما_ محبا للطبيعة ولزراعة الأشجار!  واللافت أيضا أن المناطق التي تتركز فيها الحرائق هي مناطق كانت مكتظة بالقرى الفلسطينية؛ وكانت تدب فيها الحياة قبل أن تقتلعهم تلك العصابات، فهل هي يد البشر أم غضب الأرض على محاولات تغريبها عن فطرتها الأصيلة؟ الطريف أن التفسير الغيبي لهذا الحريق ارتبط بالتفسير التاريخي، واجتمع رأي بعض المتدينين اليهود والعرب الذين رأوا أن هذا الحريق ليس إلا غضبا إلهيا على محاولات منع الأذان في المساجد الفلسطينية، ومن الطبيعي أن يقرأ هذا القرار ضمن سياق عملية التهويد ومحاولات سلخ هذه الأرض عن طبيعتها أيضا، كما تظهر هذه القناعة لقطاع من المتدينين اليهود عمق القناعة بعظم الجريمة التي اقترفتها الدولة العبرية بعملها الدائم على اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، الذي جلب عليهم حتمية الغضب الإلهي. 

من يقرأ تقارير اعتداءات الاحتلال على الفلسطينيين؛ يقرأ بشكل شبه يومي عن عمليات حرق أشجار الفلسطينيين من المستوطنين وعن عمليات اقتلاع وتقطيع تلك الأشجار وهدم الآبار ومصادرة الينابيع وتقليل حصة المياه للفلسطينيين لتجفيف وتمويت مزروعات الفلسطينيين، ويلاحظ المتابعون محاولة الاحتلال إسباغ تسميات جميلة ذات محتوى عنصري على عمليات قطع الأشجار الفلسطينية؛ فقد أطلق جيش الاحتلال على عملية اقتلاع عشرات الآلاف من أشجار الحمضيات واللوزيات والزيتون شمال قطاع غزة قبل سنوات اسم (عملية الحلاقة) وكأنه ينظف الأرض من زوائد تحجب جمالية الأرض!!  تحليل الطبيعة البشرية يفسر لجوء الفلسطينيين إلى مواجهة الاحتلال بنفس السلاح الذي يستخدمه ضدهم، فهم يزرعون وفي نفس الوقت يواجهون اعتداءات الاحتلال بعمليات حرق أو قطع أو تخريب، وهذا ثابت تاريخيا في عدة مراحل من عمر النضال الوطني الفلسطيني، فالأمر لا يتعلق بصديق للبيئة أو بعدو لها، فمعركة الأشجار _إن صح التعبير_ هي معركة هوية ووجود واضحة بلا تأويل، فالمقاومة الفلسطينية ترى أن مهمتها هي منع هذا المشروع الكولونيالي الإحلالي من الحياة والاستمرار على أرضها، ولذلك فهي ترى أن مواجهة وتحطيم أدواته الثقافية والاقتصادية والاستيطانية والعسكرية من أولى أولوياتها وفي هذا السياق يمكن أن نفهم أي دور للمقاومة في إشعال هذه الحرائق، إن ثبت. 

لفت نظر الكثير من المتابعين حجم الشماتة الشعبية الفلسطينية والعربية والإسلامية فيما يخص ما أصاب دولة الاحتلال من ضرر، وهذا مرتبط بطبيعة بشرية تحزن لمصاب من تحب وتفرح لمصاب من تكره، وكره الاحتلال مرتبط بحجم اعتداءاته على العرب والمسلمين والفلسطينيين، بالإضافة إلى شعور العرب والمسلمين بأن غالبية يهود العالم خانوهم عندما دعموا الحركة الصهيونية و أيدوا جرائمها بحق العرب والمسلمين ومقدساتهم؛ فقد سجلت الموسوعة اليهودية أن العصر الذهبي لليهود كان عندما حكم العرب والمسلمون الأندلس، بل قام العرب والمسلمون باحتضان اليهود وبحمايتهم من الإبادة الأوروبية بحقهم، هذا النكران وما يعيشه الفلسطينيون من اعتداءات الدولة العبرية وعصابات المستوطنين يوميا عزز مشاعر الشماتة بما أصاب الدولة العبرية، فهي ليست قضية عنصرية ولكنها مرتبطة بالمرارة والحزن من نكران الجميل.

 

 

صلاح حميدة

من نفس القسم دولي