دولي

انتفاضة أم هبّة أم ماذا؟

القلم الفلسطيني

 

 

 

يحار البعض في تفسير ما يجري في الضفة الغربية والقدس منذ عام ونيف؛ هل هي انتفاضة أم هبّة أم غضبة، ذلك أننا إزاء ظاهرة مركبة لا تشبه الحالات السابقة في بعض التفاصيل، وإن التقت معها في معالم أخرى. خلال 13 شهراً (انطلقت مطلع تشرين أول 2015)، مضت انتفاضة القدس كما يحب أنصار المقاومة، ونحن منهم تسميتها، في مسارات مختلفة بين حين آخر، لكنها بقيت صامدة، وقدمت حتى الآن أكثر من 260 شهيدا، وأضعافهم من الجرحى، فيما كبّدت العدو 42 قتيلاً، وما يقرب من 700 جريح.

وفي حين نسميها انتفاضة، لأنها تستحق ذلك رغم كل شيء، إلا أن السلطة وأنصارها يفضلون تسميتها هبّة، وهم في خطابهم السياسي نعوها عملياً في محطات مختلفة، وتوقفوا عن اعتبارها حتى هبّة. قالوا ذلك لأن كلمة انتفاضة تزعجهم، فالقيادة الحالية للسلطة والمنظمة وحركة فتح، تكره هذه الكلمة، وحين أجمع الشعب الفلسطيني عليها في انتفاضة الأقصى صيف العام 2000، وقفوا في المعسكر المقابل، ولا زالوا إلى الآن يرونها مسار دمار، ويتمنون لو يعود الحال إلى ما كان عليه قبلها، بل ربما اعتبروا أن غاية المنى الآن هي إعادة الوضع إلى ما كان عليه عشية اندلاعها نهاية أيلول من العام 2000، وحيث كانت قوات الاحتلال قد انسحبت تماما من مناطق (أ) حسب تصنيف أوسلو، فيما كانت السلطة تسيطر على مناطق (ب) إدارياً فقط، بينما بقيت (ج) التي تشكل ما يقرب من نصف الضفة الغربية تحت ولاية الاحتلال الكاملة، وما لبث أن التهمها الجدار الأمني، وخرجت من التداول السياسي العملي بالنسبة للحكومات الصهيونية، فضلاً عن القدس التي كانت كذلك طوال الوقت. 

الانتفاضة الراهنة ليست عمليات سكاكين وحسب، كما يحلو للبعض أن يسميها؛ فقد شهدت عمليات إطلاق رصاص، وعمليات دهس، وهي وإن كان معظم نشطائها مستقلين عن الفصائل، إلا أن كثيراً منهم، بخاصة منفذو العمليات المسلحة كانوا من فصائل المقاومة. الانتفاضة الراهنة، إلى ذلك كله، هي انتفاضة شعبية تثبتها جنازات الشهداء، وفعاليات القدس المستمرة، والتي مارس الاحتلال أبشع أنواع العقوبات الجماعية من أجل وقفها، فيما صار القتل السريع هو الملاذ في مواجهة مخاوف السكاكين، بينما تتواصل الاعتقالات بشكل يومي، ولا تتوقف أبداً، ويرتفع عدد الأسرى بشكل لافت، لم يعرف إلا في الانتفاضتين الأولى والثانية. 

في ضوء ذلك كله، يغدو الجدل حول اسمها عبثياً، فهي في خلاصتها حالة رفض للاحتلال تتواصل بأشكال شتى، وهي في الآن نفسه حالة رفض لمسار السلطة الراهن، ولا يمكن تقديرها حق قدرها إلا إذا تذكرنا حجم الجهد الذي يبذله الاحتلال في مواجهتها، بقدرات عسكرية وتكنولوجية وتجسسية رهيبة، في مقابل شعب أعزل تطارده. 

أما البعد الأهم الذي تواجهه، فيتمثل في سلطة تطاردها بكل ما أوتيت من قوة، أعني تطارد الرصاص والمال، ولا توقف اعتقالاتها للشرفاء، فضلاً عما هو أهم ممثلاً في مطاردة ثقافة المقاومة في كل المؤسسات التعليمية والدينية والاجتماعية، مع إشغال الناس بقصص المال والأعمال والاستثمار، وبث الوهم بين الناس أن ثمة دولة قائمة ولا ينقصها شيء كي تستمر، حتى لو لم يتجاوز حلمها كف يد الاحتلال عن مناطق (أ)، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل انتفاضة الأقصى. هنا شعب يعلن رفضه للاحتلال بين يوم وآخر، من خلال فعاليات شتى، ويعلن رفضه كما قلنا من قبل لمسار سلطته، لكن الأخيرة، ومعها الحركة التي تمنحها الشرعية تمثل الأزمة الكبرى التي تواجه الانتفاضة (انتفاضة القدس)، ومن دون أن تغادر فتح مربع حزب السلطة العاملة في خدمة الاحتلال، فإن الوضع سيظل على حاله من حيث المراوحة، ومن حيث التحرك الشعبي بمنحنيات شتى، بين تصعيد وتهدئة، ومن حيث اجتراح أدوات في المقاومة توجع العدو. 

إلى متى سيستمر ذلك؟ لا ندري، لكن الوضع الراهن الذي نعيشه منذ عام ونيف يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن على هذه الأرض شعبًا لن يستسلم للغزاة أبداً، ولا لمن رضوا بفتاته، ولا زالوا مصرين على المراهنة على مسار التفاوض العبثي واللعبة الدولية المجرّبة.

 ياسر الزعاترة 

من نفس القسم دولي