دولي
المحكمة الدستورية ومجتمع الكراهية
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 09 نوفمبر 2016
السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، والعبث بالدستور والقوانين الأساسية للأمم، مضافا إلى الصراع السياسي على السلطة والثروة بين النخب ومراكز القوى، أشد فسادا وتمزيقا للنسيج الاجتماعي وأعظم فتكا من أسلحة الدمار الشامل في حاضر المجتمع ومستقبله. فالنظم الديموقراطية التي تحترم إرادة الشعوب، تكون الدساتير والمواثيق الوطنية والقوانين الأساسية فيها لصالح المجتمع أولا وأخيرا، معبرة عن تنوعه وتعدديته، والتعديلات الدستورية فيها تجرى لترسيخ المزيد من الحقوق الجمعية والفردية، ولتعميق السلوك الديموقراطي في المجتمع، وتنحاز تاويلات القضاء الدستوري دائما لصالح المزيد من الديموقراطية، وترسيخ القانون وتحصين إرادة المجتمع واحترامها.
أما في الدول التي تدفع للانفراد بالسلطة أثمانا باهظة، فإن الدساتير وتعديلاتها، والقرارات ومراسيمها والمحاكم الصورية وتأويلاتها، لا تضخ إلا مزيدا من الاستبداد واحتكار السلطات في شرايين النظام الحاكم. وتشكل وسيلة من وسائل النظام لحسم معركة الصراع السياسي إلى جانب احتكار العنف والتغلب، فلا تزيد مكونات المجتمع بذلك إلا احتقانا وتمزقا، ولا تنجح مثل هذه السياسات المأزومة إلا في صناعة مجتمع الكراهية وتفريخ المزيد من العلل للأمة، فالاستبداد سرطان الأمم.
وعليه فإننا إذا تأملنا المشهد القضائي والسياسي الفلسطيني الراهن بعد صدور قرارات المحكمة الدستورية، المشكلة بطريقة تفتقر لروح الوئام والتوافق، فإننا نستخلص ما يلي: أولا: إن إقحام القضاء العالي، الدستورية والعليا، رغم عمرهما القصير، في لعبة الاستقواء والصراع السياسي الداخلي، سواء بين الفصائل أو في داخل الفصيل الحاكم، قد أخرج القضاء عن مهمته ووظيفته في مرحلة التحرر، وأدخل البلاد في انقسام سياسي جديد، وجدل قانوني ودستوري لا يقل خطورة عن الانقسام الحاصل منذ عشر سنوات بين قطبي المجتمع الفلسطيني.
في حين أن القضاء الدستوري وجد من أجل إعادة روح الوئام عند حدوث الاختلافات التي تعجز النخب السياسية عن حلها، ويكون حكمها حاسما، ويتلقى الجميع الحكم بالرضى والقبول، وهذا ما لم يحدث في الحالة الفلسطينية. ثانيا: إن الجدل الفلسطيني الداخلي قد تجاوز الانقسام حول شرعية القرارات إلى الانقسام حول شرعية المحكمة الدستورية ذاتها، وهذا بحد ذاته يضعف السلطة القضائية ويزيد من حالة الاستقطاب في الساحة الفلسطينية، في ظرف لم يتعلم فيه النظام الفلسطيني الحاكم من التجربة التونسية الجامعة القائمة على قاعدة التعاون والشراكة وأن الوطن للجميع، وانحازت إلى النموذج العربي البائس الذي استقوت فيه النخبة بكل أدوات الحكم والتحكم، فخسرت نفسها وحكمت بمنطق الاستقواء، والتغلب وأدخلت المجتمع في أزمات لا حصر لها.
ثالثا: قد يقول قائل: إن هذه القرارات القضائية صدرت في سياق صراعات وتجنح داخل الحزب الحاكم المسيطر على السلطة ومنظمة التحرير، لحسم مصير قضية نائب بعينه ولا دخل لها بالعلاقة مع القوى والفصائل الأخرى، وهذا المنطق غير سليم البتة؛ لأن منطوق القرار يمنح الرئيس سلطات لا حد لها في التصرف ببنية السلطة التشريعية وحلها أو رفع الحصانة عن أي عضو أو تجمع أعضاء في المجلس التشريعي لا يروق له لسبب أو لآخر، مما يؤسس لعلاقة مستقبلية غير متكافئة وغير مستقرة بين السلطات، تتغول فيها السلطة التنفيذية على سائر السلطات التشريعية والقضائية، ويقضى على المبدأ الدستوري القائم على الفصل بين السلطات الثلاث وهذا ما ترفضه مجمل القوى السياسية والمجتمعية والنقابية وسائر مؤسسات المجتمع المدني في المجتمع الفلسطيني.
لهذا اتسمت ردود الفعل من مختلف الأطراف باستثناء النخبة الحاكمة على قرارات المحكمة بالحدة والرفض. رابعا: إن هذه السابقة القضائية تؤسس لمنح الرئيس سلطة تقديرية، لم يمنحها له القانون الأساسي، بحل المجلس التشريعي، استنادا إلى الوضع الاستثنائي الذي يشكل السمة العامة للحالة الفلسطينية، ليصبح بذلك مصير السلطة التشريعية في يد الرئيس، الأمر الذي يعتبر انتكاسة وطنية عن إنجاز دستوري تحقق في القانون الأساسي الفلسطيني المقر عام 2003 والذي صادق عليه المجلس التشريعي الأول والرئيس الراحل ياسر عرفات.
وعليه نقول: إن كان القرار القضائي للمحكمة الدستورية قد أنهى أزمة داخلية في حركة فتح شكليا، وحسم مصير النائب محمد دحلان ورفع عنه الحصانة وانتصر للرئيس عباس، لكن القرار قد جمع السلطات والصلاحيات جميعا في يد الرئيس، التنفيذية والتشريعية بطريقة مباشرة، والسلطة القضائية بطريقة غير مباشرة، وفتح الباب على مصراعية أمام أزمات في النظام السياسي الفلسطيني مستقبلا لا تقل خطورة عن الانقسام الحاد بين شطري الوطن.
مصطفى الشنار