دولي

بائع الأكاذيب ومهندس التسلح الإسرائيلي

القلم الفلسطيني

 

وصف شيمون بيريز، الراحل حديثاً، في مقابلة صحفية معه، ما جرى في العام 1948 من تشريد للشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه قائلاً: "كما في كل حرب، هناك رابح وخاسر. وقد خسر الفلسطينيون تلك الحرب". وكان يعتمد أسلوباً حجاجياً في حواراته، ويتمتع بقدرةٍ كبيرة على مخاطبة طيفٍ عريض من البشر، يتجاوز الجمهور المحلي أو جمهور الخصم، ومستعيناً بنبرات صوت هادئةٍ وبطيئةٍ وجيّاشة.

كان يسعه إسباغ منطق شكلي على البروباغندا، فالفلسطينيون لم يخوضوا حرباً بالمعنى التقليدي للحروب بين دول وجيوش، كانوا يدافعون عن أنفسهم طوال عقود بأقل العتاد، فيما العصابات الصهيونية المنظمة تتلقى الدعم من الانتداب البريطاني القائم على حكم البلاد، وحيث كانت بريطانيا، آنذاك في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، إمبراطوريةً استعمارية صاعدة، لا تغيب عنها (عن مستعمراتها) الشمس. وبينما يشيع في أرجاء واسعة من العالم انطباعٌ بأن بيريز، الراحل عن 93 عاماً، أمضى حياته في العمل من أجل السلام، أو في تأليف الكتب (12 كتاباً)، غير أن الرجل وجّه، في واقع الأمر، جهوده من أجل بناء كيان إسبارطي مسلح حتى الأسنان، فهو من زعماء عصابة الهاغانا، وكان مسؤولاً عن التسليح والموارد البشرية، ولم يكن ناطقاً إعلامياً !. وهو أبو المشروع النووي الإسرائيلي الذي بدأ العمل به في منتصف الخمسينات، بالتعاون مع فرنسا، وقد تسنّم مناصب عليا في وزارة الدفاع، ويعتبر أحد مهندسي العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وذلك قبل أن يمضي عقد واحد على عمر الدولة الصهيونية. وشغل مناصب في وزارة الدفاع منذ العام 1959، وأبرم صفقات تسليح كبرى. 

وفي أوائل السبعينات، أطلق موجة الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة.  شيّعه الإسرائيليون باعتباره أحد أبرز بناة دولتهم، وشاركت قياداتٌ من العالم بتشييعه، باحتسابه سياسياً بارعاً، يتقن فن ترويج دولته عبر شعاراتٍ سلمية، ومقولات إنسانية وحضارية، أما ضحاياه من الفلسطينيين واللبنانيين فلا يملكون سوى الإقرار بأنه كان صاحب بالفعل تأثير كبير على مجرى حياتهم، على درجة عاليةٍ من الخطورة، حرمهم من حقوق أساسية.  لم يعرف عن بيريز مناصرته أي مشروع سلام جدّي. على سبيل المثال لم يمنح مبادرة السلام العربية (التطبيع مقبل إعادة الأرض) تأييداً يًذكر. 

ومن العبارات المأثورة عنه أن الأرض لا تُقايض بقطعة ورق. كما لم يُعرف عنه اعتماد مواقف تخرج عن إطار مواقف اليمين الإسرائيلي. كما لم يعمد يوماً إلى النقد الذاتي أو التراجع، مكتفياً بفن المناورة ودغدغة الحس الإنساني لمن يجهلون طبيعة الصراع العربي الصهيوني. وهكذا، فإن حرب "عناقيد الغضب" على لبنان عام 1996، وقصف ملجأ قانا في جنوب لبنان الذي كانت تشرف عليه الأمم المتحدة ومقتل العشرات، لم يحمله على الاعتذار يوماً، أو إبداء العطف على مقتل العائلات اللائذة بالملجأ.  لم يكن بيريز قائداً عسكرياً، بل سياسياً يؤمن بأن السياسة امتدادٌ للتفوق العسكري، ويجري التعبير عنها أحياناً بالحرب. ونهجه هو أفضل تطبيق للقول المأثور المنسوب إلى الرئيس الأميركي الأسبق، تيودور روزفلت، "احمل عصا غليظة وتكلم بصوت ناعم"، وقد أصبح هذا القول بمثابة قانونٍ يحكم سلوك دولٍ بلا حصر في عالمنا.  وإذ يُحتسب بيريز من صانعي الدولة العبرية، ومن أبرز مؤسسي حزب العمل عام 1968، أجل، نجح البولندي الأصل، المستوطن مع عائلته منذ أواخر العشرينات، في تكريس صورته السلمية الخادعة، وسجلّه حافل بجوائز شرفية نالها وتوّجها بحصوله على جائزة نوبل للسلام.

 إنه أقل تطرفاً من شارون، لكنه بقي يُحسب، حتى بالمعايير الإسرائيلية، في موقع يتراوح بين وسط الوسط ويمين الوسط، فقد كان يمارس الدبلوماسية الخارجية بمنطق العلاقات العامة السياسية، بينما لا يخرج في سياسته الداخلية عن "الثوابت والتقاليد السياسية المرعية"، في إنكار وطنية الفلسطينيين، والسعي الحثيث إلى استتباعهم ضمن الدائرة الصهيونية، ومصادرة أراضيهم.  إلى ذلك، ظل، حتى بداية القرن الحالي، ذا حضور في الإعلام والأوساط الأكاديمية ومراكز البحوث، وصاحب صداقاتٍ مع ممثلات سينمائيات (بربارة سترايساند مثلاً)، علاوة على نزوعه الصهيوني، العلماني، وحياته الشخصية والعائلية المترفة ذات النمط الغربي، واهتمامه بالتواصل مع الزعامات التقليدية من فلسطينيي العام 1948، وتبادل الأحاديث الودية المرحة معهم، لكنه كان شرساً في الكنيست في حملاته على النواب العرب. وفي عمّان، وبعد توقيع معاهدة وادي عربة، راق له تدخين الأرجيلة في إحدى مقاهي غرب العاصمة (بضع دقائق لغايات التصوير)، وكان قبل توقيع المعاهدة يزور عمّان متنكراً كما بات شائعاً. ولا يتشبّه بذلك بالجواسيس، بل بالممثلين الذين يتقلّبون في أدوار بطولةٍ شتى.

ولا شك أنه كان في عالم السياسة ممثلاً ثعلبياً بارعاً، وقد ساعده على ذلك الضعف الفلسطيني والعربي في عرض وجهة النظر العربية بصورةٍ جذّابة للرأي العام. 

 

 

محمود الريماوي 

من نفس القسم دولي