دولي

التعليم في وعينا وثقافتنا الشعبية

**القلم الفلسطيني

من الأمور التي كان ينبغي التطرق لها في المقالات الثلاث السابقة، ونبهني إليها قرّاء وأصدقاء مشكورين، وأسعفتني الذاكرة لتضمينها هنا، أن الثقافة الشعبية العامة تزدري وتحط من قيمة العمل اليدوي والحرفي عموما، بل كان يصل الأمر –حتى من بعض المعلمين إضافة إلى الأهالي-إلى التلويح بالمصير(المشؤوم) لمن لا يجتهد في دروسه، لأنه سيصبح مستقبلا من طبقة العمال، وكان لهذا التلويح-ويا لها من مفارقة-أثر كبير في حض كثير من الطلبة على الجدّ والاجتهاد، خوفا من أن يكون مصيرهم حرفة أو صنعة أو عملا يدويا!.

وسادت ثقافة عامة مفادها بأن الطلبة ذوي القدرات المحدودة في الاستيعاب والفهم يجب أن يختصروا الطريق ويتجهوا إلى الأعمال الحرفية؛ وكأن الأعمال الحرفية لا تحتاج إلى مهارات وذكاء، وهي تمس كل جوانب حياة الناس؛ كالنجارة والحدادة والبناء وصيانة السيارات والأدوات الكهربائية وغيرها، صحيح أن تطورا حدث وصار هناك برامج تعليمية في مراحل مختلفة، تؤسس إنسان الحرف وتؤهله وتخرجه إلى سوق العمل مسلحا بشهادات رسمية، بل إن المنهاج الجديد وفق ما أعلن عنه، سيتضمن الجانب الحرفي والمهني للتأكيد على التأهيل والتأسيس لحرفيي المستقبل؛ ولكن الثقافة السائدة والسلم الاجتماعي المتفق  أو المتواطأ عليه يجعل أصحاب المهن وفق تصنيفات ترتيبـية؛ فالخلفية الذهنية في مجتمعنا تجعل الطبيب والمهندس والمحامي مثلا أفضل من النجار والحداد والمزارع، ودعك من القصائد والأهازيج والشعارات التي تتغنى بالعامل والحرفي والفلاّح، فهي تظل عاطفية لا تأثير لها في الوعي الجمعي، في مسائل اجتماعية عدة، مثل الزواج أو طريقة التعاطي الفردي. وهنا قد تبدو –وفقك الله- محتجا لأن في الأمر  لبس؛  حيث أن المسألة لا علاقة لها بازدراء المهنة أو الحرفة اليدوية ذاتها، بقدر أن هناك نوعا من الشعور بالفرق في التعامل مع من تعلم ودرس وصار طبيبا أو مهندسا، وبين نظيره الحرفي الذي غالبا لم يكمل تعليمه أو لا ينعكس التعليم على أسلوبه وحياته وتعامله وصولا إلى طريقة كلامه ومفردات حديثه مع الآخرين؛ وغالبا ما تطغى صفة الثقافة و(الإيتيكيت) على الفئة الأولى التي تفرض على المحيط التعامل معها بطريقة أكثر سلاسة أو أكثر مجاملة وتبجيل، من الفئة الثانية؛ وهذا –أخي الكريم- احتجاج مقبول ومرفوض في آن معا؛ لأننا نكرر ونردد بأن لدينا حملة شهادات كثر، قلة منهم لديهم ثقافة عامة، وعلى القاعدة هذه فمن الطبيعي أن يكون من كانت حياته في أجواء علمية وأكاديمية، انتقل بعدها إلى حياة عملية قريبة منها ولو جزئيا، يختلف عن نظيره الحرفي المتعلم أو غير المتعلم، ولكل مهنة خصوصياتها ومخرجاتها في طريقة التعامل مع الناس.

ولأننا للأسف أيضا نطلق أحكاما اجتماعية مطلقة، بل بعض الآباء والأمهات حينما يريدون تنمية الطموح عند الابن أو البنت وأسلوب الحض على الاجتهاد يقولون عبارات من قبيل(أنظر إلى فلان المتفوق ابن راعي الغنم أو ابن الطوبرجي أو...ألا تخجل من نفسك وأنت ابن فلان الذي يعمل كذا ألا تكون مثله!!) وهذا تـنميط يظل ملازما للذهنية الاجتماعية، لأنه لا يجد من يدحضه في السلوك والعلاقات؛ فمثلا في الدول الغربية التي اعتدنا أن نستورد منها الأشياء السلبية للأسف، تجد ميكانيكي سيارات غير متعلم يتزوج من طبيبة، ولا يعتبر الأمر حطّا من قيمتها المهنية أو الاجتماعية، ولا يعتبر امتيازا وحظوة له، وأعلم أن هذه القيم المتجذرة لا يمكن محوها بمقالة مثل هذه، ولكن يظل هذا السلوك غير قابل للاستيراد منهم إلى هنا حتى إشعار آخر، ولو حدثت حالة لكانت محل نظرة غير مريحة لزواج مثل هذا!. 

ولو أخذنا التجارة كمهنة يرتزق منها كثير من الناس متعلمين وغير متعلمين لوجدنا أنها تفرض نمطا معينا من التعامل وإدارة العلاقات وحتى قاموس الألفاظ والعبارات، ولذا تجد التجارة هاضمة وممتصة للتراتـبية التي تفرضها الشهادة العلمية في المهن الأخرى، فضلا عن أن كثيرا من التجار الذين لم يكونوا ناجحين في حياتهم التعليمية، قد صاروا من الأسماء اللامعة في السوق وبزّوا زملاءهم المتفوقين في هذا الميدان.

ولكننا بتنا أمام طوفان بشري من حملة الشهادات، وحتى الدراسات العليا، صرت أينما التفت تجد حاملا لشهادة الماجستير أو من يحضّر للحصول عليها، دون أن يكون لهذا العدد من حملة هذه الشهادة تأثير يتناسب طرديا مع  تطور سوق العمل، فهي باتت فقط (برستيج) ومظهر اجتماعي، ووصف يكتب في السيرة الذاتية؟! وكثير من رسائل الماجستير، مما يمكن أن يفيد ولو من باب الثقافة وسعة الاطلاع، تظل حبيسة رفوف مكتبات الجامعة، ولا يتم إخراجها وإعادة طباعتها بطريقة ملائمة لتصبح كتابا متداولا في دور النشر والتوزيع والمكتبات العامة والخاصة، أي أن فائدتها محدودة جدا.

فالتعليم كان في الماضي وسيلة مضمونة للحصول على عمل (محترم) ودخل معقول ومكانة اجتماعية مقدّرة، وحاليا صار أمرا لا بد منه لأغراض مظهرية، أو لأن هذا مسار لا بد من السير فيه؛ ومرحلة على المرء أن ينهيها، لأنه لا يوجد عمل متاح يعتاش منه. وحتى أنا نفسي صرت أرى أنني شاذ عن محيطي الاجتماعي، لأنني لا أحمل شهادة الماجستير؛ أي أن تفكيري بالحصول على الشهادة متعلق بما يشبه اللحاق بـ(الموضة) المنتشرة أكثر منه بهدف الإفادة والاستفادة! قد أستوعب-جزئيا-حالة الأب الذي لم يكمل تعليمه لظرف خاص، فيريد أن يعوض من خلال أبنائه وبناته ما حرم منه، بأن يحصلوا على أعلى الدرجات العلمية ولكن أن يتحول التعليم إلى تقليد شعبي يزيد معدلات البطالة ويقلل من قيمة الشهادة الجامعية بسبب كثرة حامليها، وتتراجع الهيبة التي كانت لها فيما مضى، فهذه ثقافة يجب تغييرها وبسرعة.

سري سمّور

من نفس القسم دولي