دولي

ابداع من رحم الاحتلال في مخيم قلنديا

**القلم الفلسطيني

 

حتى بعد نكبتي عام 1948م وعام 1967م وما رافقهما من المعاناة المستمرة للفلسطينيين على المستوى الإنساني والسياسي حتى يومنا هذا بقي الفلسطينيون "جوهرة الشرق الأوسط"، كما أسماهم الصحفي الكاتب اللبناني طلال سلمان، الذي عايش اللحظات الأولى للنكبة الأولى، وكان حينها في العاشرة من عمره، وقد تناول في مقاله الشهير في عام 2011م كيف استطاع اللاجئ الفلسطيني أن يُحدث تغييرًا جوهريًّا في المجتمعات العربية، لاسيما في لبنان على المستوى الثقافي والأدبي والفكري والفني والاجتماعي والاقتصادي، حتى قال: "لم يبدأ الازدهار اللبناني فعلًا إلا بعد نكبة فسطين في عام 1948م". 

لم تكن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين منذ أن بدأت الحياة تدب فيها بمناطق عمليات (أونروا) الخمسة: (الضفة الغربية، وقطاع غزة، والأردن، وسوريا، ولبنان) إلا ولّادة لنماذج تبوأت أماكن مرموقة في مختلف المجالات، عندما أتيحت لها الفرص المناسبة. ولا شك أنه يصعب حصر هذه النماذج في كلمات؛ فموسوعة (غينيس) للأرقام القياسية -مثلًا- تزينت باسم الطالبة اللاجئة الفلسطينية إقبال الأسعد ابنة مخيمات وتجمعات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أصغر طبيبة في العالم، والطالبتين الفلسطينيتين: مايا الأسدي من مخيم العائدين في سوريا، وفرح شقير من مخيم اليرموك أحرزتا تفوقًا كبيرًا بتحقيقهما العلامة الكاملة في امتحانات الثانوية العامة بالسويد للعام الدراسي 2015-2016م، مع معاناة اللجوء والتهجير واختلاف اللغة ومناهج التعليم، لتلتحقا بدراسة الطب في كليتي الطب بجامعة مالمو وجامعة غوتنبرغ (على التوالي)، أما الطالبة نور محمود كنعان من مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في لبنان فقد حصلت على الدرجة التاسعة على مستوى لبنان في امتحانات الشهادة الرسمية للصف التاسع للعام الدراسي 2015-2016م، وهكذا النماذج لا تتوقف في مخيمات اللاجئين بقطاع غزة المحاصر ومخيمات الأردن وغيرها.

ويستمر الإبداع مع أنموذج جديد ينطبق عليه المثل الشائع: "الحاجة أمّ الاختراع"، على يد مجموعة من الشباب الفلسطينيين الواعدين في مخيم قلنديا للاجئين الفلسطينيين بالقدس المحتلة منذ عام 1967م؛ فقد استطاع ابن المخيم الطالب العشريني أحمد سجدية الذي بترت يده نتيجة إصابته بطلق ناري من جنود الاحتلال عند حاجز قلنديا في عام 2014م، بمساعدة فريق عمل من الشباب الفلسطينيين أبناء المخيم؛ أن يتحدى الاحتلال ومعاناته المستمرة، ويتمكن من اختراع يد صناعية تتحكم فيها عضلات الإنسان، لتكون مشروع تخرجه في قسم الهندسة بجامعة بير زيت عام 2016م. والهدف من الاختراع (يقول أحمد) تلبية حاجة الشخص المبتور ليقوم بواجباته الأساسية، خاصة أن الشعب الفلسطيني عمومًا ليس لديه القدرة على أن يستورد من الخارج أطرافًا صناعية؛ فسعرها باهظ وإمكانية دخولها معقدة بسبب الاحتلال". ومخيم قلنديا يقع ضمن فئة "ج" لتصنيف مخيمات الضفة الغربية (وعددها 19) وفق اتفاق أوسلو لعام 1993م، أي يقع تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، واليد البديلة "صناعة محلية، وأي فلسطيني محتاج سيكون باستطاعته الحصول عليها بأسعار مخفضة ومناسبة". ويتطلع أحمد إلى تبني المشروع كاملًا ليستطيع توسيع قدرات وإمكانات "المصنع" المتواضع، فيصبح هناك تصدير إلى الخارج، ويطمح الشاب الواعد أن يسعى هو وفريق عمله إلى تقديم اختراع جديد يلبي حاجة الشخص الذي بترت قدمه.

بقي ضرورة أن يصل صدى إبداع أحمد إلى من يعنيه الأمر، خاصة على مستوى السلطة الفلسطينية في الضفة، أو أن يتبنى المشروع أي من المؤسسات المحلية أو الإقليمية أو الدولية الحريصة على الاستثمار في الإنسان الفلسطيني، لا أقول: ليستفيد منه الشعب الفلسطيني فقط، لكن لخير البشرية جمعاء، وإلا فلن يتردد أحمد وغيره من المبدعين الفلسطينيين في أن يكونوا في قافلة هجرة أو تهجير الأدمغة الفلسطينية المبدعة؛ فهناك خارج عالمنا العربي والإسلامي من يبحث عنها؛ فهي الوَقود النادر لتسيير القطار الاستراتيجي لصناعة التغيير في المستقبل.

 
علي هويدي

من نفس القسم دولي