دولي

أسئلة مستقبل الكيان تفزع قادته

القلم الفلسطيني

 

مع مرور 68 عاماً على تأسيس الكيان الصهيوني بدأ هذا الكيان يواجه تحديات حقيقية لمقولات المفاهيم الأساسية التي تشكل فيما بينها الأفكار المحورية لما يسمى بـ«الصهيونية السياسية» التي تأسس هذا الكيان بناء عليها. سؤال «ما بعد الصهيونية»، ومراجعات «المؤرخين الجدد» في الكيان الصهيوني التي هزت أركان هذه الأفكار وجرى رفضها بحدة وقتها، تتقدم الآن بالكثير من التطورات السياسية والاجتماعية التي تعيد قادة ونخب هذا الكيان إلى مراجعة مقولات وأسئلة «ما بعد الصهيونية» سواء كانت الإجابة هي ظهور صهيونية جديدة، أم اختفاء الصهيونية، بل إن هناك من يزيد على ذلك ويتوقع اختفاء «إسرائيل» نفسها. من بين أهم الظواهر السياسية والاجتماعية التي يمكن اعتبارها مؤشرات للتراجع، أو بتحديد أدق «مؤشرات لتراجع الصعود» في أداء ومكانة الكيان الصهيوني يمكن الحديث عن التراجع الحاد في مكانة ووزن حركة أو تيار اليسار في «إسرائيل» وتغول نفوذ اليمين واليمين الديني المتطرف على وجه الخصوص على مستوى الرأي العام وعلى مستوى مؤسسات الحكم، إضافة إلى تفاقم النزعة العنصرية، وهو تطور لاحق ومرتبط بالصعود القوي لتيار اليمين الديني المتطرف وجنوحه نحو فرض انقلاب في منظومة القوانين الوضعية أو المدنية لصالح منظومة أخرى بديلة من القوانين المستمدة من مقولات متطرفة منسوبة للتوراة. هذان التطوران يقوّضان أهم أركان وأسس ما جرى ترويجه دعائياً عن الارتباط العضوي بين الصهيونية السياسية والديمقراطية، ويضعان نهاية لمفاهيم التبشير الصهيونية بالمجتمع الواعد، لصالح مفاهيم بديلة من نوع مقولات «الأسطورة الدينية» و«شعب الله المختار» و«القومية الدينية».  يأتي التطوران الثالث والرابع ليجددا طرح مستقبل «إسرائيل» نفسه، وهما: تراجع الدافعية عند الشباب «الإسرائيلي» والتي تتجلى في عدم القبول بالتجنيد والتهرب منه، وارتفاع معدلات الهجرة المعيشة، ثم تراجع النفوذ «الإسرائيلي» في الخارج، وبالذات التحولات التي تحدث في معدلات الحماس الأمريكي والأوروبي لدعم «إسرائيل»، وتزايد الميول العالمية للتحرر من أعباء وضغوط أسطورة المحرقة والعداء للسامية.

 

حالة الرعب التي تجتاح الجماعة السياسية في «إسرائيل» خشية دعم الولايات المتحدة للتقرير الذي أعدته «اللجنة الرباعية الدولية» بما يتضمنه من انتقادات حادة لـ«إسرائيل» وسياستها الاستيطانية على وجه الخصوص والذي من المقرر أن ينشر قبل نهاية مايو/ أيار الجاري تعكس عمق الإدراك «الإسرائيلي» للتحولات التي تحدث في الخارج، وبالذات الداعمة بالمطلق للسياسات «الإسرائيلية» وعلى رأسها سياسة التسويف فيما يتعلق بالاستحقاقات السياسية لعملية السلام التي مكنت الكيان من التهرب، وعلى مدى عقود، من مسؤوليته للوفاء بما تضمنته العشرات من المقررات الدولية التي تتعلق بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ولمشروع السلام وعلى الأخص منه «حل الدولتين» الذي أخذ يحتضر منذ سنوات بسبب سياسة الاستيطان واستمرار المماطلة والتسويف «الإسرائيليين». هذه المؤشرات، مجرد نماذج، لما يمكن اعتباره «مراجعات غبر مدبرة» أو «مراجعات تلقائية» لأداء الكيان الصهيوني ومستقبله، أهميتها أنها يمكن أن تفرض مراجعة أهم لمفهوم «النظرة إلى الذات وإلى الآخر» وتحرير هذه النظرة من مكوناتها الأسطورية المخادعة. فقد اعتمد الترويج للصهيونية السياسية ولمجمل المشروع الصهيوني كله على ترسيخ «إدراك خاص للذات الصهيونية» مفعم بأبعاد أسطورية، مقابل نظرة متدنية لـ«ذات الآخر» الذي هو هنا الشخصية العربية عامة والفلسطينية على وجه الخصوص، على النحو الذي صاغه بنيامين نيوبرغر في دراسة شهيرة له بمناسبة العيد المئوي للصهيونية الصادر عام 1979، وهي مقالة تعكس بقوة مفهوم الذات الصهيونية بكل ما تتضمنه من تحيزات في تحديد العلاقة بين الذات والآخر، أو بعبارة أدق بين اليهود والأغيار، والتي اعتبر فيها أن جوهر الصهيونية قد ظهر في إعلان إنشاء دولة «إسرائيل» في 14 مايو/ أيار عام 1948. هنا تجلى التأسيس للأسطورة الدينية والسياسية للصهيونية، وبالذات ترسيخ فكرة «العلاقة بين الشعب وأرضه». كما تتجلى أكذوبة طرح الصهيونية السياسية على أنها «حركة تحرر وطني» وتصطدم بالواقع المرير الذي أخذ يفرض نفسه الآن في المفاهيم البديلة التي تمثلها «الصهيونية الدينية» أو التوراتية التي باتت أهم معالم الدولة الصهيونية في مسار تحولها إلى دولة يهودية وعلاقتها بالآخر العربي كما تعبر عنها فتاوي الحاخام الأكبر الراحل عوفاديا يوسف وابنه الحاخام إسحق يوسف، وهما من حددا مبرر وجود السكان الفلسطينيين في «أرض إسرائيل» بفتوى دينية مجبولة بموقف عنصري متطرف تقول إنه «يجب على الفلسطينيين أن يكونوا خدماً لليهود، وأن يحظر عليهم كما على غيرهم من الأغيار (غير اليهود) العيش في هذه البلاد». والحاخام إسحق يوسف هو من أفتى بقتل كل مصدر تهديد محتمل رداً على انتفاضة السكاكين الشبابية الفلسطينية. مثل هذه الفتاوى التي باتت تعكس المزاج «الإسرائيلي» العام والرسمي بعنصريته وتطرفه الديني تعبر عن إدراك آخر بديل للذات وصورة أخرى بديلة للذات «الإسرائيلية» أو الذات اليهودية وضعت الكيان الصهيوني في صدام مع نفسه أولاً ومع «الأغيار» من الدول الكبرى التي باتت أكثر استعداداً للتحرر من أساطير الصهيونية، الأمر الذي أخذ يعطي مصداقية لأسئلة «ما بعد الصهيونية» وما بعد «إسرائيل»، وهي أسئلة تثير الفزع في أوساط كبار المسؤولين بالكيان الذين أرعبهم محتوى تقرير «مراقب الدولة» حول العدوان «الإسرائيلي» على غزة.

 

د. محمد السعيد إدريس

من نفس القسم دولي