دولي

المعنى الواسع للنكبة

القلم الفلسطيني

 

نقف على بُعد ثمانيةٍ وستين عاماً من النكبة في فلسطين، وإعلان قيام الكيان الصهيوني على أرضها، وعلى بُعد مائة عام من اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية، ومثلها تقريباً من وعد بلفور، ونحن نعايش أزماتٍ متواصلةً، راكمتها كل السنين التي تلت هذه الأحداث والمحطات المفصلية في تاريخنا الحديث. وإذا كانت النكبة في جوهرها هي نكبة العرب بوجود الاحتلال الاستيطاني في قلب أرض أمتهم، وإذا كانت فلسطين قضيةً تمثل السعي العربي إلى التحرّر من الهيمنة وتقرير المصير، فإن النكبة لا تقتصر على ما جرى في عام 1948، وإنما تتجاوز ذلك إلى معنىً أوسع، يشمل أحداثاً ومحطاتٍ عديدة، ويحيل إلى نتائج كارثية نعيش مفاعيلها وإرهاصاتها اليوم.

ليست نكبة عام 1948 سوى الجزء الأول من نكبة فلسطين، وهو ليس الأسوأ، على الرغم من أنه كشف عن فساد الأنظمة العربية القائمة، وفشلها في تحمل المسؤولية، إذ إن تخلي النظام العربي الرسمي تدريجياً عن قضية فلسطين، وبحثه عن تحسين شروط الهزيمة، وترك الفلسطينيين يدبّرون أمورهم، هو نكبة أكبر من الهزيمة العسكرية، فهي تسليم بانتصار إرادة الكيان الصهيوني السياسية، والقوى الداعمة له. من "كامب ديفيد" مروراً ب" أوسلو" وصولاً إلى الاستماتة لإحياء عملية السلام المنهارة، يظهر وجه النكبة البشع، في هزيمة الإرادة والاستسلام الكامل، وتسوّل المكرمات من العدو، والتضحية بكرامة الأمة، ما ترك جرحاً غائراً في نفوس كثيرين من أبنائها، يسهم في رفد ظواهر سلبية عديدة نعايشها.

كانت النكبة الأكبر في الهزيمة السياسية التي صنعتها أنظمةٌ ارتدّت على كل إرث حركات التحرّر الوطني ضد الاستعمار، فنكبة الارتماء في حضن الهيمنة الاستعمارية، بعد كل التضحيات والدماء التي بُذلت في سبيل التحرّر من الاستعمار المباشر، وإزالة قاعدته المتمثلة بالاحتلال الاستيطاني في فلسطين، ليست هيّنة بالطبع، والعودة عن كل شعارات التحرّر، وتسليم مفاتيح البلدان العربية، السياسية والاقتصادية، للقوى الاستعمارية الغربية، هي التجلي الأوضح للهزيمة السياسية، وغياب الإرادة واستقلال القرار. 

 

مثلت نكبة عام 1948 في جزءٍ منها حالة تشرذم عربية، وعلى الرغم من وجود أكثر من جيش عربي، إلا أن ضعف التنسيق أدّى إلى كارثة، كما أن فساد الأنظمة، وتحديداً في قضية التسليح، ساهم مباشرةً في الوصول إلى النكبة، وقد استمر التشرذم والفساد، وأخذا مساحاتٍ أوسع، وأشكالاً أخطر، فمن جهةٍ تبخرت أحلام الوحدة العربية على مذبح القُطرية الضيقة أولاً، ثم الهويات الطائفية التي تقسّم الدول القُطرية تالياً. ومن جهةٍ أخرى، قاد فساد الأنظمة، والتحول إلى إقطاعياتٍ رأسمالية تحصر الثروة في يد أهل الحكم ومحاسيبهم، إلى تردّي الخدمات المقدّمة للمواطنين، وزيادة معدلات الفقر والأمراض والأمية، وتدمير حياة الناس في المجتمعات العربية. تستحق الأنظمة الفاسدة التي قمعت كل صوتٍ يعترض على سوء إدارتها الأرض والثروة والدولة، أن تكون من العلامات البارزة للنكبة التي أصابت الأمة، غير أن وطأة النكبة ازدادت مع ثورة الجماهير عليها عام 2011، فلم تتحسّن الأمور، وغطّت الأنظمة على ترهلها بشراسة القمع، في حين لم تفلح النخب المعارضة في إنتاج بديلٍ، فغدونا أمام ثنائية فلول الأنظمة/ الحركات الجهادية العنفية، وبات وجود الدول مهدّداً بعد تعثر عملية تغيير الأنظمة.  كان وجه النكبة هنا سافراً، إذ لم يقتصر البلاء على أنظمةٍ تسلطيةٍ أنتجت دولاً هشة، ومساحة ملائمة لصراعات الهوية، وما تنتجه من خطر التقسيم، بل تعدّى ذلك إلى نخبٍ معارضةٍ غير ناضجة، لا تقبل المختلفين في عمليةٍ ديمقراطيةٍ سليمة، ولا تتورّع عن الانخراط في صراعات الهوية، أو ترجّي القوى الاستعمارية لمساعدتها ضد خصومها أو ضد الأنظمة، والمزايدة على الأنظمة في تقديم التنازلات لها، وهي، تالياً، لا تستطيع أن تقود عملية تحرّر من الاستبداد والهيمنة الأجنبية في آن، لتعالج نكبة العقود الماضية، من دون أن ننسى الحركات الجهادية التي تحرق الأخضر واليابس في مجتمعاتنا، وتؤجج الصراعات داخلها. النكبة هي الصورة الموسعة لواقع حالنا في الوطن العربي، وهي أوسع من هزيمةٍ عسكريةٍ أدت إلى قيام كيان استعماري استيطاني في فلسطين، إذ إن عدم قدرتنا على تغيير حالنا إلى الأفضل، وتعثر محاولات النهوض وتراجعها، وغياب المنجز في حضور الفشل والعجز على كل المستويات، يمثل نكبةً كبرى، لا تنفصل عن فلسطين، غير أنها تتخذ أوجهاً متعدّدة، تشير إلى النتيجة نفسها، أي الفشل في التحرّر والنهضة. عدم الشعور بالألم لذكرى نكبة فلسطين هو بذاته نكبة، وتبلد المشاعر والأحاسيس جرّاء توالي الكوارث يقدّم تصوراً عن حجم النكبة. البوصلة ضائعة، والصراعات الداخلية تستهلك الجميع، والعدو مرتاح، وهو ليس عدواً أو أولويةً في الوقت الحالي عند بعضنا، بل يصل الأمر إلى طرح إمكانية التعاون معه، وهذا أكبر مستوىً للنكبة، حين يقع الاختلاف حول تعريف العدو بوصفه عدواً، وتصبح رؤية القضية الفلسطينية ضبابيةً، مع تراكم عوامل ومصائب عديدة، ويُعاد تعريف القضية، ويتم التقليل من أهميتها، ويسود الجهل بطبيعتها وتطوراتها. يحتاج انتشالنا من النكبة بمعناها الواسع مجموعةً قيادية تعرف الخلل جيداً، وتستطيع تجاوز أخطاء الماضي، لتستولد تغييراً واسعاً وشاملاً لأوضاعنا العربية، وإلا فإن أوجهاً جديدة للنكبة بانتظارنا.

 

بدر الإبراهيم 

من نفس القسم دولي