دولي
أحمد ياسين.. تكريم إلهي لرجاء عُلْوي
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 مارس 2016
يبدو التفاعل، في كل عام، مع ذكرى استشهاد الشيخ أحمد ياسين، وكأنّه تفاعل مع حدث يحصل للتوّ، أو حدث مستمر في الحدوث، أو حدث محتفظ بفاعليته، ومتجدد بأشكال الفاعلية، وقد أبى أن يتحوّل إلى ذكرى باردة، تستمد حياتها من فعل الناس، من فعل الإحياء الملازم للحدث بوصفه ذكرى، حينما يغدو فعل الإحياء سابقًا على فاعلية الحدث، واستجابة عاطفية تمنح الذكرى ولا تأخذ منها، وتعطيها معناها ولا تلتمس فيها المعنى، وتجمّلها بالأثر والقيمة المفتعلين ولا تستفيد منها أثرا وقيمة مستحقين، وهذه الذكرى التي تستمد ديمومتها من عطاء النّاس تكون قد كفّت عن العطاء، وفقدت قدرتها الذاتية على الحياة، واقتصرت في أحسن أحوالها على ما تركته من أثر طيب في العالمين، يتناقص بمرّ الزمان، وتغير الأحوال، ولاسيما أحوال النّاس الأكثر ارتباطًا بالحدث. لا بدّ وأن الأثر الكبير الذي تركه الشيخ أحمد ياسين، يساهم في مدّ الحدث بالحياة، والحفاظ على لحظة استشهاده حيّة، كما كانت أول مرة، وإن تبدّلت أشكال الحياة فيها، وفي الحديث "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثٍ؛ صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، وقد خلّف الشيخ ذلك كله، وفي المثل الدارج "من خلّف لم يمت"، والشيخ الذي ترك صدقات جارية كثيرة، منها صدقة الجهاد القائم، ترك أيضًا علم الجهاد الرشيد، كتبه نصوصًا محبّرة بالدم، ومخطوطة في الأرض وفي نفوس الملايين، وخلّف آلاف الأبناء من المجاهدين والمقاتلين والدعاة والمحبين يدعون له، ولكنّ حياة الحدث، قائمة بذاتها، وفعل الشهادة مستمرّ بنفسه، حتى وإن تبدلت أحوال هذا الأثر الذي خلّفه الشيخ. صحيح أن هذا الأثر الذي تركه الشيخ، وكان قد صنعه مع آخرين، لا يزال على عهد الثغر، وفيًّا للكلمة الأولى، وأمينًا على ما قضى عليه الشهداء، وصحيح أنه وبهذا الأثر، ومع إخوانه، صنع الصخرة الممكنة في وجه انحدار الحركة الوطنية الفلسطينية، المتمثل بخيار التسوية واتفاقاته ونتائجه، وصنع العمود الفقري الذي تلتحم عليه بنية المقاومة، ومنه صنع حارسها، ونقل الحركة الإسلامية الفلسطينية من هامش التاريخ إلى القلب في متنه، ومن هامش الفاعلين إلى طليعتهم، وأحال حفنة المستضعفين إلى جمعٍ بالغ الدور، له شأن وحساب، وخطا خطوة عظيمة إلى الأمام لحلّ معضلة الإسلاميين في العالم ما بين واجبهم ودورهم تجاه فلسطين وواجباتهم وأدوارهم الأخرى، وصحيح أنّ في هذا الأثر بقية من خير كثير، إلا أنّ المياه التي جرت أسفل جسره كثيرة أيضًا، وقد تلبست التجربة من بعده بما تلبست، واعتراها ما اعتراها، وتخبطت بالذي تخبطت به، ونالها من نفسها ما نالها، لكن حتى لو ظل كل شيء على براءته الأولى، فالشهادة في ذاتها أكبر من الأثر، ويبقى للشهداء ما يقولونه، مما هو خالد بخلودهم.
تظلّ للشهيد كلمته التي قالها وقضى عليها ولم يبدّل، وشهادته للناس وعلى الناس، وانسلاخه من كل معيق، ونهوضه بالواجب، وقيامه بالمسؤولية، وتخفّفه من أثقال الأرض، وخِفته في الصعود إلى السماء، وتحقيقه لمعاني الإرادة في ذاته، فكيف إذا كان هو الشيخ أحمد ياسين، بالمعيقات الثقيلة التي أحاطت به وتلبّست جسده، وكيف إذا كانت إرادة الشهيد قد ابتدعت الفعل العظيم من العدم، وكانت بصيرته عيانًا متحققًا أبدًا في الزمان، وكان زهده وتجرّده أول الحكاية وأوسطها ومنتهاها، وكان في ذلك كله مصداق قوله: "أملي أن يرضى الله عني"، وكان إلى ذلك علامة باقية، وفعلاً إيجابيًّا، ونصًّا في التاريخ والواقع والناس، وخلّف صدقة جارية، له أجر الخير الذي فيها، وليس عليه خطؤها الطارئ من بعده؟! ثمة الكثير الذي يقوله الشيخ، وستظل شهادته متجددة، حدثًا في ديمومته وتجدده، مُتضمنًا في حياة الشهداء الباقية، وكأنّ في ذلك استجابة لأماني الشهداء المنثورة بين يدي ربهم، وقد جاء في الحديث في معنى قوله تعالى: "ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون"؛ أنّ أرواح الشهداء "في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال هل تشتهون شيئًا؟ قالوا أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا قالوا يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا". ونحن وإن كنا لا نقطع لأحد بهذه المنزلة، التي نرجوها للشيخ، ولا نتألى على الله تعالى، فإنّ في كلمته الباقية، وشهادته الغضّة التي لا تشيخ، ودمه النازف بلا انقطاع، وإحساس الناس بشهادته حدثًا قائمًا متجددًا، يستمدون منه المعنى، ويمنحهم قدرتهم على الوفاء الصادق، وكأنه لا يزال يُقتل في سبيل الله؛ تكريمٌ إلهيّ لذلك الرجاء العُلْوي.
ساري عرابي