دولي
محمد القيق.. أفق من كلمات
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 27 جانفي 2016
حينما تنشر هذه المقالة، يكون قد مضى 63 يوما على إضراب الصحفي الفلسطيني محمد القيق عن الطعام، وبهذا يكون محمد، المعتقل إداريا في سجون العدو الصهيوني، قد حقق جملة من الانتصارات، أو قد أكد انتصاراته السابقة، التي كسر فيها أغلال الحبر والكاميرا، ومهّد طريقه إلى الأفق حرا، بكلماته التي يَعْبُرُ بها الدرب الصعب، والمزدحم بالكلمات العانية، الذليلة في أغلالها النكدة، والمنحنية في زنازينها الواطئة، والخانعة لأرباب كثر، رب العمل، ومالك المؤسسة، والرقيب المتربص، والعدو المتحفز، وفي بلد لا تليق به الكلمة الملونة أو الرمادية، ولا ينبغي أن يتسع لها، فإما أن تكون صريحة في اصطفافها داخل نص القضية والمقاومة، وإما أن تكون خارج هذا النص كله. محمد، المراسل التلفزيوني، والكاتب الصحفي، خريج الإعلام في جامعة بيرزيت، والأسير المحرر، لم تكن حياته من بعد الجامعة، إلا طبقة إضافية من السنوات على تلك الحياة التي عرفها في الجامعة، ملتصقة بها، بانسجام وارتياح بلا تنافر ولا شذوذ، مع نضوج أكيد، فكما كان مناضلا وهو طالب في مرحلته الجامعية الأولى، وارتقى بمساهماته النضالية في إطار الحركة الطلابية داخل جامعة بيرزيت، وصولا إلى رئاسة مجلس طلبتها، فإنه استمر مناضلا من موقعه الإعلامي، ولم يتحول موقعه هذا إلى قيد يسترقُّ آدميته، ويحيله إلى عبد لاهث خلف اللقمة، أو خلف الشهرة، أو خلف المنصب، أو إلى عبد فارٍّ رهبة من عبيد مثله، أو إلى عبد لذلك كله، في زمن طمست فيه مخاوف الحياة وشهواتها ألق الكثيرين ممن أضاءت بهم الجامعة يوميا، وزادت المظلمين ظلمة. في فلسطين، فإن الكلمة نفسها، تختلف أثمانها بحسب الشخص قائلها، وبحسب تصنيف زوار الفجر للقائلين، فإن ثمة من يقولها وينام وهو واثق من أنّ باب بيته لن يُطرق فجرا، وثمة من يقولها وهو واثق أن ساعة دفع الثمن آتية لا محالة، فينام وهو مشفق فقط على أهله من فزع آخر الليل، ومن الطرقات الحقودة على باب الآمنين. محمد كان من هذا الصنف الأخير، الذي يعلم أن الكلمة منه ليست كما هي من غيره، ومع ذلك كان يقولها، صادقة واضحة بيِّنة الملامح، كاملة النقاط، منحازة إلى قضية شعبها وانتفاضته ومقاومته دون أي لكن، ودون أي لون شاذٍّ يأخذ من وضوحها وحدّة اتجاهها، وبلا استدراكات تحفظ له أمنه أو رزقه على حساب الحقيقة التي ارتضى لنفسه موقع المسؤولية عنها، ولكن بلا استعراض ولا مزايدة. ومحمد كان يعمل في مهنة، استرقّت الكثيرين، في زمن تحولت فيه منابر الكلمة، إلى مصانع يبيع فيها المثقف أو الصحفي كلمته داخل دواليب تلك المصانع، فَيُماهي نفسه، مع أجندة المصنع، ويرسم حدوده حتى خارج المصنع بما لا يغضب رب المصنع، وبعضهم يزيد فيتحول إلى منافق خالص، وفي تلك المصانع يتدرب باعة الكلمة على اقتناص مواضع الكتف الشهيّة، لكن محمدا تجاوز ذلك كله، فلا امتهن فنّ أكل الكتف، ولا رسم حدوده وفقا لمقتضيات أجندة المصنع، وبكل بساطة كان صحفيا كما كان طالبا، في دور لا ينشقّ بالفرد عن القضية العامة، ولا يستوجب التناقض ما بين النزعات الشخصية الإنسانية للفرد وبين المسؤوليات العامة الثقيلة والمكلفة، والموجبة للصدق والأمانة، وفوق ذلك تجاوز محمد الخوف من قول الكلمة في وسط المعركة، وتجاوز أثر التجربة الاعتقالية السابقة، فكان أمينا ودقيقا تجاه ملحمة شعبه الراهنة، ومبادرا ومسؤولا في مقالاته ومداخلاته التلفزيونية، آخذا كلمته بقوة، ذخيرته، وشرفه، ونقاءه، يساهم بالكلمة وحدها، ولكنها مساهمة مؤثرة. لأن مساهمة محمد مؤثرة، اعتقله الاحتلال إداريا بموجب ملف سري، وهو غطاء مكشوف لتبرير الاعتقال وتجديده لانعدام الأدلة المؤهلة للاعتقال والمحاكمة وفق قوانين العدو، وكانت التهمة الوحيدة التي أمكن التقاطها من هذا الملف السري، هي التحريض الإعلامي، أي الموقف المسؤول والطبيعي من أي فلسطيني مهما كان دوره وموقعه ومهنته تجاه ملحمة الشعب الفلسطيني الراهنة، ولأن أي مساهمة صادقة وجادة ومنتمية فعلا للشعب وقضيته مربكة ومزعجة للعدو، ولو كانت بكلمة، فإن هذا العدو وجد نفسه يائسا وصغيرا أمام أمثال محمد، وأمام خلفائه من طلبة جامعة بيرزيت، الذين دفعوا الحالة الكفاحية الجارية إلى الأمام بزحفهم الأعزل إلى نقاط الاحتكاك مع العدو على مداخل مدينة رام الله، لا يملكون إلا أجسادهم، وبنشاطهم التعبوي داخل الجامعة، لا يملكون إلا كلماتهم، فعمل الاحتلال على اعتقال طليعتهم، وفيهم رئيس مجلس الطلبة الطالب سيف الإسلام دغلس، وسكرتيرة اللجنة الثقافية الطالبة أسماء قدح.. حقا ما أصغر هذا العدو! لم تكن ذخيرة محمد الكلمة فحسب، ولكنها كانت في الأساس العزيمة، والإيمان الإيجابي بالقدر، والتحرر من المخاوف والشهوات بالعبودية لله جلّ وعلا، فلا خوف على الرزق ولا على الأجل، فما أن حُوّل إلى الاعتقال الإداري، حتى أعلن إضرابه المفتوح عن الطعام، وحول جسده الأسير من نقطة ضعف إلى نقطة قوة، ومن هدف يقيّده العدو إلى سلاح يواجه به العدو، ليصنع أفقا آخر للحرية بجوعه، ويبتدع موقعا جديدا له من داخل الأسر، يبدو فيه العدو مرة أخرى صغيرا ويائسا أمامه. 63 يوما من الجوع، معركة قاسية، يشارف فيها محمد حدود الشهادة، وهو يخوضها مع نفسه قبل أن يخوضها مع عدوّه، وقلوب وجلة تنتظر في بيته، زوجه وأطفاله، لكن محمدا من القلة في هذا العالم الذين يحوّلون قيودهم ونقاط ضعفهم إلى نقاط قوّة، ويقاتلون بأجسادهم المنهكة والمقيّدة عدوا مدججا، ما أعظمهم وما أصغر عدوهم!
ساري عرابي