دولي

عن الديمقراطية وفلسطين

القلم الفلسطيني




ليس هذا العنوان صيغة أخرى لشعار "الطريق إلى فلسطين تمر عبر العواصم العربية"، الذي رفعته الأيديولوجيات العربية المختلفة، اليسارية والإسلامية والقومية، في بعض مراحلها، ولا ما يشبهه. إنه عنونة لمحاولة أصبحت ضروريةً لتفسير التكامل اللازم بين الخطاب الديمقراطي وقضية فلسطين في زمننا هذا. لقد طال الزمن على قضية فلسطين، ومن أهم أسباب تأخر حل هذه القضية العادلة التي نشأت حينما تحرّرت شعوب أخرى من الاستعمار، تشابكها مع ما أسميتها في كتاب لي صدر عام 2007 "المسألة العربية" في بلادنا، و"المسألة اليهودية" في الغرب. وقد أثبتت التطورات اللاحقة صحة الفرضية أن الاشتباك مع هاتين المسألتين خلال النضال من أجل العدالة لفلسطين يتطلب خطابًا ديمقراطيًا. وليس هذا مكان شرح ذلك، ويمكننا الاكتفاء، بالتأكيد، على استحالة فهم سوء أداء الدولة العربية في القضية الفلسطينية، بمعزل عن فهم طبيعة الأنظمة والعلاقة العضوية بين غياب الديمقراطية والعجز عن تجاوز حالة التجزئة العربية. أما فلسطينيًا، فثمة عوامل أخرى تفصح عن قوة الرابط بين قضية فلسطين وقضية الديمقراطية: أدى التأخير في حل القضية الفلسطينية، والوقائع التي أنتجها الاحتلال الإسرائيلي على الأرض، إلى نشوء واقع أبارتهايد (نظام فصل عنصري) استعماري. ولا يمكن مواجهة نظامٍ كهذا بدون خطاب ديمقراطي. فلم تعد قضية فلسطين قضية تحرر من الاستعمار فحسب، وأصبح من الضروري أن يتخذ التحرّر الوطني طابعًا ديمقراطيًا في مواجهة نظام فصل عنصري.
في الضفة الغربية، قامت سلطة فلسطينية، ما لبثت أن انشقت إلى سلطتين. وفي الحالتين، نحن أمام حركة وطنية، تمارس سلطة على الناس، من دون سيادة على الأرض. وحيثما تمارَس السلطة من دون رقابة ومحاسبة تظهر تجاوزات، وهذه تضيف ظلم الأقربين إلى ظلم الاحتلال. وحتى في القضية الوطنية ذاتها، لا يمكن ضبط مواقف السلطة من المفاوضات ومقاومة الاحتلال وغيرها دون نوع من الديمقراطية.
ما زالت إسرائيل تدّعي أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وهذا من وجهة نظر ضحاياها الذين قامت على أنقاض مدنهم وقراهم، وما زالت تحتل أراضيهم، خطاب أيديولوجي مكذوب. هذا صحيح. ولكن، يصعب مقارعته بهذه الحجة وحدها. وتحتاج مواجهته إلى خطاب ديمقراطي ذي مصداقية يثبت زيف الديمقراطية الإسرائيلية.
ازدادت أهمية الصراع داخل إسرائيل نفسها. ولا يمكن للعرب داخل حدود عام 1948، وأقصد الذين يحملون المواطنة الإسرائيلية، الصمود في معاشهم اليومي والنضال من أجل حقوقهم، وربطها بالقضية الوطنية الفلسطينية، من دون خطاب ديمقراطي متماسك. هنا، ينشأ خطر التأسرل إذا كان الخطاب الديمقراطي من دون بعد وطني، وهو خطر يزداد، أخيرًا، بشكل ملحوظ، ويمكن أن يودي بالخطاب الديمقراطي والهوية الوطنية سوية. أما من دون خطاب ديمقراطي، فينشأ خطر فشل أي حركة وطنية، وتهميشها الكامل في واقعٍ كالواقع الإسرائيلي في الداخل. ولا يمكنك أن تطالب بالديمقراطية والمساواة في إسرائيل، وأن تتضامن مع الاستبداد في مكان آخر. أما على المستوى العربي، ففي الماضي كان بإمكان الوطني الفلسطيني أن يتجنب التورط فيما يجري داخل الدولة العربية، والاكتفاء بالتطرق لمامًا لمعاناة الشعوب العربية في ظل أنظمة استبدادية ومتخلفة، أو الذم والهجاء في الأحاديث الخاصة، بما يشبه التذمر والشكوى للتنفيس. فحين لم تكن الشعوب ثائرةً على أوضاعها، كان بوسعه تبرير الصمت، لنفسه ومحيطه، بأنه ليس من مسؤوليته أن يتحدث باسم هذه الشعوب، كما أن حجة التركيز على موضوعه الأساسي، فلسطين، وجيهة جدا، ولا سيما أن العديد من العرب والفلسطينيين محقون في اعتبارهم الصهيونية عدوًا للعرب والفلسطينيين في آن، واعتبارهم إسرائيل نفسها من أهم عوامل تردّي حال النظام العربي. ولكن، بعد أن ثار العرب ووجِهوا بما ووجِهوا من قمع الأنظمة (وانضمت إلى قمعهم حركات متطرفة أيضا)، لم يعد في وسع أي وطني فلسطيني أن يحافظ على مصداقيته، وأن يتجاهل معاناة أشقائه العرب الرازحين تحت وطأة الاستبداد الذي قد يتجاوز حجم جرائمه جرائم إسرائيل نفسها. ويفترض بعدالة قضيته أن تجبره على الاعتراف بعدالة قضية الآخرين؛ ويتوقع أن يدفعه نضاله ضد الظلم المزمن بحق الفلسطينيين، لكي يكون ضد الظلم عمومًا، ولا سيما ذلك الواقع على أشقائه وجيرانه. من الصلف والغرور غير المبرر أن نطلب من العربي المتعرّض للتعذيب في سجون النظام الحاكم لوطنه بسبب مواقفه، أو المعرّض للقصف بطائرات سلاح الجو الذي موّله بحصص كبيرة من طعام أسرته، أن يتضامن مع فلسطين، متجاهلًا معاناته. عليه، أولًا، أن يتضامن مع نفسه ضد الظلم، ومن حقه أن يطلب منا التضامن معه. وفي الأخوّة النبيلة في النضال ضد الظلم، ينشأ التحالف المبدئي فعلًا، وهو ليس ضد مصلحة الناس، بل يلتقي مع مصلحتهم. ومن دون ذلك، يبقى التضامن شعارًا أجوف لا معنى له. هذا هو المعنى العميق لكون فلسطين هي البوصلة. أما الصراخ في وجه المواطن العربي الذي يواجه التعذيب، وصنوف القمع الأخرى بأن بوصلته هي فلسطين، فهو رجع صدى صراخ الجلاد في وجه ضحيته. قد يلتقي الفلسطيني مع هذا النظام العربي، أو ذاك، في الطريق الطويل والوعر والشاق، من أجل فلسطين. ولكن، من المحظورات التي لا تبيحها حتى الضرورات أن يلتقي مع نظام عربي في قمعه لشعبه. فالمظلوم الذي لا يمكنه أن يتضامن مع مظلوم آخر صراحةً، يمكنه أن يصمت على الأقل.
د. عزمي بشارة

من نفس القسم دولي