دولي

استحقاق الدولة الفلسطينية.. أراجيف وحقائق

القلم الفلسطيني


مع تصاعد حوادث العنف والإرهاب المنسوبة إلى تنظيم داعش ونظائره، راحت أروقة فكرية وسياسية مؤثرة في أحوال العرب و«الشرق الأوسط»، تتساءل عما إذا كان العالم بحاجة إلى دولة فلسطينية؟ السؤال في هذا التوقيت غير بريء، ولا هو عفوي، فمن مقاصده المضمرة، لفت الانتباه بعيداً عن القضية الفلسطينية، بزعم التركيز على خطر داهم عابر للقارات والمحيطات، هو التطرف والإرهاب، وحشد المنشغلين بمستقبل فلسطين للاصطفاف خلف أولوية أخرى، تتعلق جدلاً بأمن الدنيا بأسرها. هناك مقصد آخر، مفاده الإيحاء بأن فلسطين الدولة، ستكون منصة لانطلاق الإرهاب واستنساخ الإرهابيين. ويذهب زلمان شوفال، السفير الإسرائيلي الأسبق في واشنطن، إلى أنه ربما وقعت هذه الدولة برمتها سريعاً تحت سيطرتهم. الأخذ بهذه المقاربة الخبيثة وابتلاعها إقليمياً ودولياً، يعنى إرجاء قضية الدولة الفلسطينية إلى أجل غير مسمى. فمن ذا الذي سيجرؤ على متابعة إنشاء دولة قابلة للفشل، والتحول إلى «مفرخة» للإرهاب؟ ثم متى وكيف السبيل إلى إعلان الانتصار النهائي على الإرهاب؟ على أن المجال الدولي لا يخلو من قوى ورموز مسموعة الكلمة، يمزجون الخبث بالتبجح، ولا يستحيون من إعلان ما يعتمل في مشاريعهم ومخططاتهم. من هؤلاء، مثلاً، هنري كيسنغر، الذي أطلق مؤخراً سؤالاً استنكارياً حول ما أن كان من الصواب إقامة دولة عربية أخرى، في ظل انهيار الأنظمة العربية القائمة، واستقواء داعش؟ العيب الأساسي في منطق كيسنغر وجماعة المشككين في جدوى قيام الدولة الفلسطينية راهناً، بذريعة عدم مواتاه المشهد الإقليمي، يكمن في الاعتقاد بأنه «.. لا تأثير للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على باقي الأمور السيئة المتفاعلة في الشرق الأوسط.. ». يروج كيسنغر لهذا الاعتقاد الزائف، رغم أنه من أكثر الاستراتيجيين دراية بالصلة العضوية بين المشهد «الشرق أوسطي» البائس، وبين تطورات القضية الفلسطينية وتفاعلاتها. ليس ثمة عاقل بوسعه مقاربة احتمالات الحياة العربية أو «الشرق أوسطية»، على صعيد الاجتماع السياسي داخلياً، أو على صعيد العلاقات مع عوالم الآخرين، دون أن يصطدم بحقيقة ما موصولة بالمسألة الفلسطينية.
عند تخصيص الحديث عن الإرهاب، لجهات أسبابه وإشعاعاته وكيفية مكافحته، لا يصح أبداً الاستخفاف بتأثيرات هذه المسألة. وعليه، يظل الأوفق للصدقية، الدفع بأن العالم يحتاج بالفعل إلى دولة فلسطين، باعتبار أن قيامها هو أقصر الطرق لتحقيق أكثر من غاية: الوفاء بحقوق شعب تعرض لظلامة تاريخية بينة، وتطبيق الشرعة الحقوقية الدولية التي تعترف بأن هناك دولة فلسطينية تحت الاحتلال، وإقرار السلم والأمن في منطقة بالغة الحساسية بالنسبة لطائفة واسعة من المصالح الدولية. هذا علاوة على الإطاحة بخطاب كثير من القوى الموصوفة بالتطرف، التي تتخذ من ديمومة انتهاك الحقوق الفلسطينية، ذريعة للنشوء والارتقاء، وسرعة الانتشار فكرياً وحركياً، إقليمياً ودولياً. قبل ذلك وبعده، لا أحقية لكائن من كان في إزاحة قضية الدولة الفلسطينية، اعتماداً على فرضية تعارض تقعيد هذه الدولة مع مجريات محاربة الإرهاب، ليس فقط لفساد هذه الفرضية، واستحالة إثبات صحتها واقعياً، وإنما أيضاً لأن فلسطين الدولة، تمثل استحقاقاً أصيلاً للفلسطينيين، يتسق مع حقهم في تقرير المصير، ولا يرتهن قياماً وقعوداً بقضية أخرى. نحن هنا بصدد استحقاق سابق على اندلاع موجة أو موضة مكافحة الإرهاب، التي لا يعلم أحد مداها في الزمان والمكان. هذا دون التطرق إلى صعوبة تعيين معناها ومبناها وبدايتها ومنتهاها، والضالعين فيها على وجه والدقة. قبل ذلك وبعده، يتصل استحقاق الدولة الفلسطينية، بمحاربة مظهر من أكثر مظاهر الإرهاب تجلياً ووضوحاً، هو الاحتلال الإسرائيلي لهذه الدولة. نطرح هذه القناعة، ونحن نحاجج بأن الاحتلال يقع في أعلى مراتب الإرهاب. قبل أن يدلى كيسنغر بمشورته المغرضة، كان عليه أن يسأل نفسه حول حصاد إنكاره للحقوق الفلسطينية، بين يدي جهوده الدبلوماسية لإقرار التسوية الشاملة في «الشرق الأوسط» قبل نيف وأربعين عاماً.. ترى، هل أدى هذا الإنكار ورفض مبدأ الدولة الفلسطينية، إلى تحقيق هذه التسوية، أو حقق الأمن لإسرائيل الأثيرة لديه؟ اليوم، يحاول الثعلب القديم كيسنغر ومن يتبعون سنته غير الحميدة، تكرار الخطيئة ذاتها.


د. محمد خالد الأزعر

من نفس القسم دولي