دولي

ماذا تعني موجة الغضب الفلسطيني الجديدة بالنسبة لأوروبا؟





يعود الفلسطينيون إلى التظاهر ورشق الحجارة وإشعال إطارات السيارات، واستعمال أدوات بدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي كما كانوا يفعلون في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. يعني هذا باختصار أنّهم لا يستشعرون أي مكسب جوهري تم تحصيله بعد ربع قرن من "عملية سلام الشرق الأوسط"، كما أنهم لا ينتظرون من سلطتهم وقواتهم الرسمية المسلحة أن تقوم بمهمة التصدي للاحتلال.
من القسط الاعتراف بأنّ الشعب الفلسطيني خرج من "عملية السلام" بمكتسبات رمزية فقط لا مفعول لها في الواقع. تم التصفيق لفلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ورفع علمها في الهيئات الدولية، وتوالت الاعترافات بدولة غير قائمة في الواقع. أما أجهزة الإدارة الذاتية التي تحمل اسم فلسطين فعملها مشروط بالإخلاص في تقديم الخدمات الدؤوبة لسلطات الاحتلال، مثل "التنسيق الأمني" وضبط الأوضاع، مع "استعادة الهدوء" كلما غضبت الجماهير.
ينبغي تدقيق النظر في مشهد الغضب الفلسطيني الراهن، فمن يَظهرون في الانتفاضة الجديدة ينتمون بالكامل تقريباً إلى جيل "عملية السلام". جاؤوا إلى الدنيا بالفعل تحت شعارات السلام ووعود التسوية السياسية مع الجانب الإسرائيلي، وظلّوا يرون جولات التفاوض المتعاقبة والمصافحات الدافئة والاتفاقات المتلاحقة وهي تتوالى سنة بعد سنة، لكنهم أبصروا الأوضاع وهي تسوء على الأرض يوماً بعد يوم مع بقاء الاحتلال وتفاقم سياساته. ثم شاهد العالم "مهندس اتفاق أوسلو"، أي رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ذاته، وهو يصعد منصة الأمم المتحدة أخيراً ليعلن إحباطه وقنوطه من التسوية السياسية وخياراتها المسدودة.
خلف الغضب الفلسطيني المتصاعد دواع واقعية ملموسة. فقد تبخّرت وعود الحرية والاستقلال والسيادة، وتوسّع الاستيطان الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية، وبقيت حواجز جيش الاحتلال قائمة على الطرق، وتحوّلت التجمعات السكانية الفلسطينية إلى جزر معزولة تفقد تواصلها الجغرافي، وأصبحت أراضي الدولة الموعودة شظايا متفرقة بلا مقومات تواصل جغرافي. أما الاقتصاد الفلسطيني فوقع في قبضة اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، وبات قوت الفلسطينيين خاضعاً للمانحين الدوليين، كما تم إقحام المجتمع الفلسطيني في نظام التوسع بالاقتراض المصرفي لتلبية احتياجات استهلاكية متعاظمة بما يصرف المواطنين المثقلين بالأعباء عن التفكير في الثورة.
لا يرى الفلسطينيون جدوى فعلية من دولة فلسطينية تعجز عن تخليص عاصمتها ومقدساتها من سيطرة الاحتلال، وها هي القدس تشعل شرارة الغضب الفلسطيني مرة أخرى، كما ألهبته في نهاية صيف سنة 2000.
يغضب الفلسطينيون اليوم، ولا يمكن شراء سكوتهم على الوضع البائس بمزيد المساعدات أو المفاوضات. انتهت اللعبة باختصار، وبات أمام أوروبا خياران أساسيان في التعامل مع الموقف؛ فإما الاعتراف بدواعي الغضب الفلسطيني أو الاستمرار في غض الطرف عن الحقائق.
من هذه الحقائق أنّ الشعب الفلسطيني لم يعد واثقاً بأي مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. وأنّ هذه المفاوضات كانت في الواقع ستاراً لبسط سيطرة الاحتلال العسكري على الأرض. ثمّ إنّ الساحة السياسية الإسرائيلية ليست راغبة أساساً في تسوية سياسية جادة مع الجانب الفلسطيني، سواء في حكومة نتنياهو اليمينية المتشددة أم في المعارضة الهشة، وأنّ جمهور "الدولة اليهودية" يزداد تطرفاً يوماً بعد يوم في ظل نظام كريه من الأبارتهيد يجري تعزيزه على الأرض.
من حق الشعوب أن تغضب وأن ترفع صوتها بالصياح عندما تكون مسلوبة الحقوق والسيادة. وعلى أوروبا التخلص من "المدرسة القديمة" وأن تعيد تقييم منطقها في التعامل مع الحالة في فلسطين، وامتلاك الإرادة السياسية للتأثير في المجريات المتدحرجة. ولا سبيل إلى ذلك بدون الضغط على الاحتلال الإسرائيلي، على الأقل من خلال حرمانه من بعض امتيازات الشراكة التي يحصل عليها من الأسرة الأوروبية.
حتى لو هدأت موجة الغضب الفلسطيني قريباً؛ فإنها ستكون إرهاصاً لتسونامي الغضب اللاحق الذي قد يجرف نظام الاحتلال في طريقه.
حسام شاكر

من نفس القسم دولي