دولي

حماية الأقصى أوجب الواجبات وأضعف الإيمان

القلم الفلسطيني




ما يجري في المسجد الأقصى وحرمه، منذ أيام، حلقة من مسلسل يرمي إلى استيلاء الاحتلال الإسرائيلي على المسجد الذي يمثل نواة القدس العربية وجوهرتها. يدرك الاحتلال ذلك، ويعمل على قطع الآصرة التي يعتبرها الأخيرة التي تربط الفلسطينيين والعرب والمسلمين بالقدس المحتلة، بما يمكنه، بعدئذ، من الاستيلاء الكامل على المدينة المقدسة.
هناك، بالطبع، إلى هذا الهدف السياسي والاستراتيجي، محاولة لتعزيز حرب دينية، يشنها متطرفون يهود، لهم من يمثلهم في حكومة نتنياهو وفي أجهزة الجيش والأمن، ضد المسلمين وأماكنهم الدينية المقدسة. الظروف الحالية في المنطقة يعتبرها نتنياهو والأعضاء البارزون في الطاقم الوزاري ظروفاً مثالية لبلوغ أهداف المخطط السياسي الديني، والذي يستند إلى مزاعم صفيقة، تقوم على أن القدس العربية ليست لأبنائها، وكذلك فإن المسجد الأقصى ليس للمسلمين! بل لليهود الذين يملكون الهيكل تحت أساساته. الحروب الطائفية بين المسلمين في منطقتنا، بالنظر إلى واقع التنافس على التطرف القائم على قدم وساق بين إيران ومليشياتها ومجموعاتها، وبين داعش والقاعدة من جهة ثانية. وكما أن المسلمين من الطرفين هم ضحايا هذا الصراع الأخرق، فإن غير المسلمين، من مسيحيين وسواهم، ضحايا لهذه الحرب، حيث يتم استهدافهم مباشرة في العراق، فيما يتم دفعهم دفعاً لقبول التطرف السياسي والمذهبي الإيراني.
في هذه الظروف، يختار ممثل اليمين الأشد تطرفاً، بنيامين نتنياهو، أن يشن معركته ضد الأقصى، والتي لم تتوقف منذ محاولة إحراق المسجد المبارك، بعد مضي عامين فقط على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. حقاً، يعمل الصهاينة وفق نَفَس طويل، فمنذ 46 عاماً، وهم يستهدفون تغيير معالم الأرض والتركيبة السكانية والنيْل من الأماكن المقدسة، بحيث تصبح أماكن عبادة المسلمين مقدسة لليهود، وهذه أوضح مظاهر الحرب الدينية التي تقوم على التغليب الديني، واصطفاء دين وإقصاء آخر، ودائماً لخدمة أهداف توسعية صريحة. وفي هذه الحالة المنظور بها، الهدف تأبيد الاحتلال، وحرمان الفلسطينيين، بمختلف أديانهم وطوائفهم، ومعهم العرب والمسلمون، من مركز روحي ووطني وتاريخي، يمثل جوهر القدس وجوهرتها، وتكريس التهويد القسري، واجتذاب مسيحيين متطرفين وممولين صهاينة في الخارج، لدعم هذه التغييرات على الأرض، والتهويد القسري لبيت المقدس.
واظبت السلطة الفلسطينية التي يقع مقرها على مبعدة عشرين كيلومترا من القدس، في الأيام الأخيرة، على إصدار بيانات شجب وتنديد، ودعت مجلس الأمن إلى الانعقاد، لبحث هذه التطورات، وهي واحدة من دعوات روتينية، قلما تنجح، إذ يتم إطلاقها، غالباً، لأغراض إعلامية، ومن غير تحضير دبلوماسي مع الدول دائمة العضوية ومع دول أخرى. وتغيب المشاركة الرسمية، حتى ولو بصفة رمزية عن التحركات الجماهيرية التي تدافع عن الأقصى، وتُنازِل الصهاينة وجهاً لوجه في باحة الحرم. ويسترعي الانتباه التنظيم شبه العفوي، لكن الفعال، للتحركات الجماهيرية، ومنها تشكيل مجموعات "المرابطون والمرابطات"، لدوام إقامة شبان وشابات في باحة الحرم، وكذلك الحال في تشكيل مجموعة "طلاب مصطبة العلم" الذين يتلقون دروساً شرعية، ويواظبون على البقاء في المسجد وباحته. وقد عمد وزير دفاع الاحتلال، موشي يعلون، إلى إعلان المجموعتين غير قانونيتين، فيما تحظى قطعان المستوطنين بالتغطية القانونية، وكذلك ما يرتكبه ساسة وزعامات أحزاب في استباحة الأقصى.
أعيان القدس، وفي طليعتهم مفتي المدينة المقدسة الشيخ محمد حسين، يرابطون في الأقصى، ويقومون بجولات يومية في باحته، ويستثيرون الروح المعنوية للمحتجين. فيما يجري التحذير من خطةٍ على وشك الاكتمال، بتقسيم المسجد ومرافقه مكانياً وزمنياً بين المسلمين ومتطرفين يهود، على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل. وهو ما يعني إغلاق أجزاء من المسجد في وجه المصلين، وكذلك إغلاق المسجد برمته في ساعات معينة "منعاً للاحتكاك" مع المتطرفين اليهود! علماً أن هؤلاء المتطرفين، ومعهم مؤسساتهم الدينية والحزبية والأمنية، هم من يواظبون على الاحتكاك بالفلسطينيين المسلمين، باستباحة المسجد وانتهاك حرمته. فيما الوسيلة الفضلى لمنع الاحتكاك هي ابتعاد المتطرفين اليهود عن الأماكن الإسلامية والمسيحية، والكف عن الوجود الشّرطي في باحة المسجد، وترك المسلمين والمسيحيين ينظمون أداء عباداتهم، من دون تدخل من قوات الاحتلال.
في هذه الأثناء، تلقى الاعتداءات المتكررة على الأقصى أصداء واسعة في الأردن الذي يحظى بمكانة رعاية الأماكن الإسلامية في القدس، بموجب اتفاق بين الأردن والسلطة الفلسطينية. وقد واظب الأردن على اعتبار موظفي الأقصى من سدنة وحراس ومعلمين من وزارة الأوقاف الأردنية. وتجري تحركات شعبية متعددة في الأردن، بينها اعتصامات ومسيرات جماهيرية ضد هذه الاعتداءات. وعلى المستوى الرسمي، يشعر الأردن باستفزاز واضح من السلطات الإسرائيلية تجاهه، نتيجة الاعتداءات. وقد كرر الملك عبد الله الثاني، في الأيام الماضية، تصريحاته الغاضبة التي تفيد بأن من شأن الاعتداءات أن تمس العلاقة الأردنية الإسرائيلية، وفقا لمعاهدة السلام بين الجانبين. وسبق لعمّان أن سحبت سفيرها، في الخريف الماضي، احتجاجاً على اعتداءاتٍ مماثلة، وتطلب الأمر عقد اجتماع ثلاثي بين العاهل الأردني وبنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في عمان نوفمبر الماضي.
تكرار الاعتداءات يضع الأردن في موقف حرج. وتقوم واشنطن، في الأثناء، بمحاولات لـ "التهدئة" بين الجانبين، وكذلك نقل الرسائل بينهما. ويصر الاحتلال على أنه لا يفعل شيئاً يُذكر في الأقصى! وأنه مطلوب من الأردن "لجم العنف"، وكأن الأردن، أو أي طرف آخر، هو من يطلق التحركات الجماهيرية نصرةً للقدس والمسجد الأقصى. وحتى ساعة كتابة هذا المقال، فإن الأجواء متوترة بين عمّان وتل أبيب، لكنه لم يتم سحب السفير الأردني، أو مطالبة السفير الإسرائيلي بمغادرة عمان، فيما كانت الأنباء تتحدث عن استعداد شبيبة الليكود (حزب نتنياهو) للتحرك نحو الأقصى. وقد ترددت أنباء عن دعوة الأردن مجلس الأمن لعقد جلسة عاجلة لبحث الوضع. ويبقى الموقف الأردني الساخط على درجة من الأهمية، نظرا للحرص الإسرائيلي الشديد على العلاقة مع الأردن، غير أن التوقف عند تسجيل المواقف الصائبة لن يغير كثيراً في المعادلات على الأرض، فالمحتلون دأبوا على التفاوض مع الآخرين ميدانياً، قبل أي تفاوض دبلوماسي وفي أثنائه. والأردن يدرك ذلك، وبيده استخدام ورقة العلاقات والمعاهدة للجم الاعتداءات وضمان عدم تكرارها، وبغير استخدام هذه الورقة، ستبقى الأمور على حالها، بل ستتطور إلى الأسوأ في الأقصى والقدس.
محمود الريماوي

من نفس القسم دولي