دولي
انحسار أصدقاء «إسرائيل» في أوروبا
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 أوت 2015
تستأثر مسألة العلاقات بين الحركات السياسية الأوروبية والعربية باهتمام واسع بين المعنيين بتحول المتوسط إلى بحيرة سلام وازدهار وحرية. ويربط البعض في المنطقة تحقيق هذه الأهداف بقيام تعاون حثيث بين الحركات السياسية الإصلاحية الموجودة في ضفتي المتوسط. وفي بعض المراحل التاريخية شهدت العلاقات العابرة للمتوسط أمثلة ملموسة على ذلك النوع من التعاون المنشود. ففي منتصف الثلاثينات، نمت العلاقة بين الحركة الاستقلالية في سوريا ولبنان، من جهة، والجبهة الشعبية في فرنسا، من جهة أخرى. وأفاد منها الطرفان في معارك خاضها كل منهما في أوروبا والمنطقة العربية. وفي أواخر الحرب العالمية الثانية، اضطلعت الحركات السياسية الفرنسية المنتمية إلى يسار الوسط بدور مهم، وإن يكن غير معروف، في ترجيح خيار إعلان استقلال البلدين على خيار استمرار السيطرة الفرنسية عليهما. وخلال السبعينات، وبعد أن وفرت حرب 1967 الدليل الحاسم على طبيعة «إسرائيل» التوسعية، نمت العلاقة بين العديد من الحركات الإصلاحية العربية، من جهة، والحركات الإصلاحية الأوروبية، خاصة الاسكندنافية منها. ورغم هذه الأمثلة التي تدل على إمكانية التعاون بين الجهتين، فإن العلاقة بينهما لم تتطور بالمقدار الكافي. ولعبت حربا السويس عام 1956 والعراق 2003 دوراً مهماً في التأثير في العلاقة بين الحركات السياسية الأوروبية والعربية. في حرب السويس وقف حزب العمال بحزم ضد العدوان الثلاثي، ولعب دوراً رئيسياً في توعية الرأي العام البريطاني والأوروبي والدولي على مخاطر الحرب. ولكن على الرغم من أهمية هذا الموقف، فقد طغى موقف الحزب الاشتراكي الفرنسي، بزعامة غي موليه، من الحرب على موقف نظيره البريطاني. فغي موليه كان القوة الدافعة وراء خيار الحرب ضد مصر. وغي موليه هو الذي أشرك «الإسرائيليين» في الحرب. وبلغ من اندفاع غي موليه لخوض خيار الحرب حداً جعله يعرض على رئيس الحكومة البريطاني انتوني ايدن إعلان الوحدة بين فرنسا وبريطانيا عندما شعر بأن الأخير لم يكن متحمساً كفاية للحرب. لقد طغى الدور الذي لعبه انتوني ايدن فيها على دور غي موليه، وقل من عرف أن الأخير كان هو المحرك الحقيقي لعدوان السويس. وبالمقارنة، فإن الدور الذي لعبه توني بلير كان أقل أهمية من الدور الذي لعبه جورج بوش في خيار حرب الخليج الثانية، بل حتى اقل من دور مارغريت ثاتشر في حرب الخليج الأولى. ولكن بلير عوض عن دوره المحدود، بإبداء حماس واندفاع غير محدودين في بلورة قرارات الحرب وإنضاجها بحيث تصلح للتسويق وفي الترويج لها في بريطانيا وخارجها. ولم يكن حماس بلير مفتعلاً، بل كان معبراً عن قناعاته تجاه العرب عموماً، وعن انحيازه الصارم، مثل غي موليه، لمصلحتهم ولمصلحة «إسرائيل». وبخروج غي موليه من الحكم غاب أثره على السياسة الفرنسية، أما أثر بلير فباق بعد أن تحولت البليرية إلى «عقيدة» تعتنقها الأحزاب الأوروبية المستعدة لعقد صفقة «فاوستية» مع شياطين السياسة من أجل الوصول إلى الحكم. وما دامت البليرية فاعلة فان آثارها السلبية في العلاقات الأوروبية-العربية باقية، فهل من وسيلة لإصلاح هذا الواقع؟ أن التخلص من البليرية سوف يكون مدخلاً مناسباً للخلاص من هذه الآثار السلبية، فضلاً عن آثاره الإيجابية في الحياة السياسية في بريطانيا وأوروبا. ويعرب دافيد سلبون المؤرخ والفيلسوف السياسي البريطاني البارز عن انطباع عام يسود الرأي العام البريطاني حينما يقول أن "البليرية" دمرت أفضل تقاليد حزب العمال. ولكن رغم ذلك أمام الأحزاب والحركات الإصلاحية الأوروبية عموماً، وفي بريطانيا خصوصاً محطات مهمة قريبة لتخليص الحياة العامة من الإرث البليرية، أو لتقليص أثرها على الأقل. أولى هذه المحطات هي الزيارة المتوقعة لنتنياهو إلى بريطانيا خلال شهر سبتمبر/أيلول المقبل. وتثير هذه الزيارة استياء وردود فعل سلبية لدى الكثيرين من البريطانيين. وتعبيراً عن رأي هؤلاء في سياسة «إسرائيل» التوسعية والاستيطانية وضعت عريضة وقع عليها ما يفوق الخمسين ألفاً من البريطانيين والبريطانيات يطالبون بإلقاء القبض على نتنياهو إذا دخل الأراضي البريطانية، وبمحاكمته على الجرائم التي ترتكب بحق الفلسطنييين. ولكن حتى تلزم العريضة البرلمان البريطاني بمناقشتها ومن ثم بتبني المطلب الذي تحمله، فإنه من المفروض أن يصل عدد الموقعين إلى مئة ألف. وإذا ألقى حزب العمال بثقله وراء هذه العريضة، فباستطاعته بسهولة أن يزيد عدد الموقعين عليها إلى الرقم المطلوب. بذلك يحقق الحزب خطوة على طريق التخلص من الإرث البليري الذي يحابي «إسرائيل» مثلما يفعل غلاة الصهاينة. المحطة الثانية هي تقرير لجنة ت"شلكوت" التي تحقق في حرب العراق. وقد تأخرت اللجنة في نشر تقريرها على نحو غير مألوف. ويدور نقاش ساخن اشترك فيه دافيد كاميرون، رئيس الحكومة البريطانية، حول هذا التأخير. والخوف هو أن يتحول موضوع النقاش من حرب العراق، وما جرته هذه الحرب من ويلات على المنطقة وعلى العالم، وحول مدى نجاح أو فشل اللجنة في الكشف عن خفايا الحرب، إلى موضوع التأخير ودلالات التأخير السياسية والإدارية. وهذا التحول من شأنه أن يمد بلير و"البليرية" بحبل النجاة وأن يسمح له بمواصلة دوره السلبي على صعد كثير منها العلاقات العربية-البريطانية. وبإمكان حزب العمال أن يحول البحث في مضمون تقرير "لجنة تشلكوت" إلى مناسبة تاريخية لتحديد المسؤولين عن ارتكاب الأخطاء التاريخية التي رافقت الحرب، ومن ثم إلى توفير الضمانات الدستورية والأخلاقية والسياسية التي تحول دون تكرارها. وهذا ما سوف يؤدي بالضرورة إلى دحر "البليرية". إن زعامة الحزب الراهنة والانتقالية ليست "بليرية" ولكنها ليست بعيدة عن بلير بالمقدار الكافي الذي يسمح لها بفك الارتباط النهائي معه ومع "البليرية". لذلك فإن التعويل هو على الزعامة الصاعدة في حزب العمال البريطاني المتمثلة بجيريمي كوربن. يقف كوربن من هذه القضايا ومن أكثر قضايا العلاقات الدولية مواقف سليمة وعادلة، تؤسس لعلاقات صحية مع الدول والمجتمعات العربية. هذه المواقف تكشف الفارق بين المؤمنين حقاً بالتضامن الإنساني وبالشرعية الدولية، وبين توني بلير. لذلك يعمل بلير بكل وسيلة على إبعاد كوربن عن زعامة الحزب. لقد قال بلير يوم تسلم زعامة الحزب أن اليوم الذي يشعر فيه عضو حزب العمال بالخجل من القول بأنه صديق «إسرائيل» قد انقضى. المهم أن تأتي انتخابات زعامة حزب العمال بزعيم يعرف معنى الخجل. وهذا فارق مهم بين بلير وبين كوربن وجيل جديد من زعماء يسار الوسط في اليونان، إيطاليا، إسبانيا، ودول أوروبية أخرى على الطريق.
د. رغيد الصلح