دولي

دلالة ترتيب "إسرائيل" في نماذج القياس الدولية

في سنة 1863، ظهر أول نموذج لترتيب الجامعات التقنية في أوروبا، ثم تزايدت ظاهرة ترتيب Ranking الدول في معظم مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والتقنية والرياضية…إلخ، وأصبحت الدول تتنافس في هذه المجالات لتحسين مواقعها في سلم الترتيب هذا.

ترتيب الدول كأحد مقومات القوة الناعمة:

منذ أن روَج جوزيف ناي Joseph Nye مفهوم القوة الناعمة سنة 1990، أدركت الدول أن موقع الدولة في ترتيب نماذج القياس الدولية هو من ضمن مؤشرات القوة الناعمة، لأنه يشكل قوة جذب من ناحية، وتهذيب لصورة الدولة في ذهن المجتمع الدولي شعوباً وحكاماً من ناحية ثانية، وهو أمر توليه "إسرائيل" اهتماماً كبيراً. ولكن ما هي أهمية ترتيب الدولة في هذه النماذج:

1. تعزيز فرص جذب الاستثمارات الخارجية وتشجيع التجارة معها، بل والموافقة على تقديم القروض لها، إلى جانب جذب الطلاب للدراسة في جامعاتها؛ وهو ما يتضح في التنافس مثلاً على المراكز المتقدمة في ترتيب الجامعات من ناحية، وما يتضح مثلاً في نتائج نموذج "تنفيذ العمل Business Doing" لتعزيز العلاقات التجارية مع الدول المتقدمة في المرتبة من ناحية ثانية.

2. تحسين فرص السياحة نتيجة قوة الجذب التي تصنعها المكانة المتقدمة للدولة، فكلما كان معدل الاستقرار السياسي أعلى كانت نسبة السياحة أعلى، وكلما ارتفعت مكانة الدولة في سلم الترتيب في هذا المجال تزايدت نسبة إسهام السياحة في هذه الدولة.

3. تزايد التقارب من قبل وحدات المجتمع الدولي مع الدولة التي تحتل مراتب عليا، مما يعزز القوة التفاوضية لهذه الدولة.

4. توسيع دائرة التأييد في أوساط الرأي العام الدولية للدولة التي تحتل مرتبة متقدمة، وهو ما يحولها لنقطة جذب للمقار الرئيسية للمنظمات الدولية، أو الإقليمية، أو المنظمات غير الحكومية، أو الفعاليات الفكرية والأدبية والرياضية…إلخ.

5. إن رصد ترتيب دولة معينة في نماذج القياس المختلفة يساعد على تحديد الاتجاهات الكبرى في هذه الدولة، وتحديد القطاعات التي تتقدم فيها وتلك التي تتخلف فيها.

6. تصبح الدولة ذات المركز المتقدم في الترتيب في قطاعات معينة نموذجاً جاذباً للدول الأخرى، وهو ما يجعل الدول الأخرى تحذو حذو هذه الدولة، وهو ما يعطي "قيمة مضافة" لهذه الدولة في نطاق رصيدها من القوة الناعمة.

يمثل الإنجاز بمعناه العام أداة لقياس الفروق في ميدان معين بين الأفراد أو الجماعات أو الدول أو التنظيمات المختلفة، فكما يتم ترتيب الطلاب طبقاً لعلاماتهم، أو ترتيب الشركات طبقاً لأرباحها أو حجم إنتاجها، أو ترتيب الأحزاب طبقاً لعدد مقاعدها، فإن عدداً كبيراً من المؤسسات الدولية العلمية بدأت تعتمد نماذج للقياس وترتيب الدول تقوم على الخطوات التالية:

1. تحديد ميدان القياس (سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو عسكري،…إلخ) أو كلي.

2. تحديد المؤشرات الرئيسية للميدان المراد قياسه Indices، فمثلاً إذا كان الميدان اقتصادياً يتم تحديد مؤشرات مثل إجمالي الناتج المحلي أو الدخل الفردي أو حجم التجارة أو الاحتياطي النقدي…إلخ، وهكذا مع بقية الميادين السياسية والاجتماعية وغيرها.

3. تحديد المؤشرات الفرعية sub-indices، وهي التي تشكل في مجموعها قيمة المؤشر الرئيسي؛ مثلاً في قياس الديموقراطية يتم تجزئة المؤشر إلى مؤشرات فرعية مثل نزاهة الانتخابات، الرقابة، تداول السلطة، حرية الرأي، حرية التنظيم،…إلخ، ويتم جمع قيمة المؤشرات الفرعية للحصول على قيمة المؤشر الرئيسي.

4. يتم تحديد قيمة أو نسبة مئوية لما يسمى وزن المؤشر الرئيسي، وتحديد قيمة لكل مؤشر فرعي من مكونات المؤشر الرئيسي طبقاً لأهميته، ويتم ذلك إما طبقاً لخطوات إحصائية مثل معادلة التأثير المتبادل Cross impact، أو معامل الارتباط Correlation coefficient، أو الانحدار Regression لمعرفة الاتجاه العام للمؤشر، أو من خلال استطلاع آراء الخبراء…إلخ.

5. يتم جمع قيمة كل المؤشرات الفرعية لتحديد قيمة المؤشر الرئيسي، ثم جمع قيمة كل المؤشرات الرئيسية.

6. تحديد ترتيب الدولة طبقاً لمجموع مؤشراتها، مع ملاحظة ما يلي:

‌أ. أن عدد الدول تتباين بين نماذج القياس المختلفة.

‌ب. أن الفروق بين النماذج ليس كبيراً نظراً لاعتمادها في الغالب على مصادر معلومات إما متشابهة أو ذات قدر كافٍ من المصداقية.

وهناك حوالي 85 مؤسسة تقوم بعمليات القياس طبقاً لنماذج مختلفة، ويصل المعدل العام لمجموع المؤشرات لهذه النماذج حوالي 165 مؤشراً رئيسياً وفرعياً.

تحديد موقع "إسرائيل" في هذه النماذج:

يحاول الإعلام الإسرائيلي التركيز على لفت الانتباه لترتيب "إسرائيل" في نماذج القياس الدولية، مع العمل على التركيز على الميادين التي تحقق فيها "إسرائيل" نتائج أفضل مثل النفوذ الدولي، أو التعليم والجامعات وبراءات الاختراع…إلخ.

ولتبيان اهتمام "إسرائيل" بدلالات الترتيب لها في مختلف الميادين، يكفي العودة الى دراسة ردود الفعل الإسرائيلية على ترتيبها عسكرياً في مكانة دون المكانة الإيرانية، ومحاولة نقد منهجية القياس من حيث عدد المؤشرات (55 مؤشراً فرعياً)، أو أوزان المؤشرات، بينما لا يتم نقد نماذج القياس التي تعطي "إسرائيل" مكانة متقدمة. فمثلاً نماذج القياس الخاصة بالديموقراطية بعضها لا يغطي مؤشر الاحتلال، وعدد المعتقلين من الخاضعين للاحتلال ضمن مؤشرات الديموقراطية أو حقوق الانسان، بل حتى في قياس العولمة يجري التشكيك بها إذا كانت نتائج "إسرائيل" ليست كما تريد.

ولتحديد ترتيب "إسرائيل" الكلي في المجالات الكبرى، قمنا برصد أربعة قطاعات أساسية، واستخدمنا أهم النماذج المتداولة لكل قطاع مع مقارنتها مع النماذج الأخرى من باب الاستئناس بدرجة الدقة في القياس، وأخذ الفروق بين نماذج القياس المختلفة في الاعتبار.

إن "إسرائيل" تسعى إلى تعزيز ترتيبها الدولي لتوسع الفضاء الدولي من حولها، لكنها أيضاً تعمل على تحويل الصراع العربي الصهيوني من صراع صفري Zero Sum Game إلى صراع غير صفري Non Zero Sum Game، ففي النمط الأول فإن كل ما يخسره طرف (1-) هو مكسب للطرف الآخر (1+) فتكون الحصيلة الرياضية صفراً. أما في النموذج الثاني غير الصفري، فإن الهدف هو الجمع بين الصراع والتعاون بهدف العمل من منظور مستقبلي على توسيع دائرة التعاون العربي الصهيوني تدريجياً، مما يجعل الوزن النوعي للتناقض أقل أهمية، فكلما اتسعت دائرة المصالح المشتركة العربية الإسرائيلية تضعف أهمية المصالح المتناقضة خصوصاً في البعد الفلسطيني، وعليه فإن توسيع الروابط العربية الإسرائيلية يستهدف جعل الموضوع الفلسطيني يفقد وزنه تدريجياً، وهو ما تسعى له "إسرائيل" مدعومة باستراتيجية تعزيز رتبتها الإقليمية والدولية في نماذج القياس الدولية وتوظيف ذلك على كل الأصعدة.

من نفس القسم دولي