دولي
لا مكان لدولة فلسطينية في "صفقة القرن"
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 14 مارس 2020
دعوة السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، محذراً من أن فرص "حصولهم على دولة تتضاءل"، خدعة غرضها تأمين غطاء لعملية القضم المتسارعة لمعظم الأراضي الفلسطينية، وتصعيد الضغوط باتجاه استسلام فلسطيني علني، فلا يوجد مكان أو إمكانية لدولة فلسطينية، ولو منقوصة السيادة، في الخطة الأميركية الإسرائيلية، لاستكمال تنفيذ المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين. ويرمي فريدمان طعما للفلسطينيين والعرب والمجتمع الدولي لتخفيف المعارضة والتحفظات الواسعة على الخطة التي ذاع وصفها "صفقة القرن"، تمهيدا لإلقاء اللوم على الفلسطينيين، خصوصا أن القيادة الفلسطينية الرسمية، على ضعفها، لا تستطيع قبول التنازل النهائي عن كل حقوق الشعب الفلسطيني، وحرمان الأجيال القادمة من المطالبة بها، وذلك كله لقاء حجز الفلسطينيين في مدن وقرى معزولة ومحاصرة من الجيش الإسرائيلي، تحت وهم "حل الدولتين" المخادع.
أما تعبيرات فريدمان العنصرية فتنسجم تماما مع كونه صهيونيا معلنا، سجله حافل في دعم المستوطنين، ودعم المستعمرات اليهودية، باعتبارها نتيجة وإفرازاً لنظام احتلال عسكري غير شرعي وغير مشروع، فقوله إن فرص الفلسطينيين في الحصول على دولة يتضاءل يومياً ما هو إلا تهديد باستمرار الاستيطان واقتلاع السكان وتقليص رقعة المدن والقرى الفلسطينية، والأهم من ذلك إنكار حق الشعب الفلسطيني بالحرية وتقرير المصير، لأن قرار إقامة الدولة الفلسطينية، ولو صورياً، قرار استعماري عنصري إسرائيلي، فالمشروع الأميركي يؤسس لقيام نظام فصل عنصري يضمن استمرار لا إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
ليس مستغربا إذا كان فريدمان نفسه هو الذي اختار توقيت مقابلته مع قناة الجزيرة، فتسويق صفقة القرن ضروري للتضليل، والضغط المستمر لبث اليأس والإحباط بأن بديلها أكثر صعوبة قد يخسر جرّاءه الفلسطينيون كل شيء، بسبب مماطلتهم و "تعنتهم"، أو كما ادّعى مستشار الرئيس الأميركي وصهره، جاريد كوشنر، في لهجة بالغة العنصرية والتحقير، إن تضييع الفرص هي قصة حياة الشعب الفلسطيني المثيرة "للشفقة"، وعليه، فالخطة الأميركية هي أفضل ما يمكن أن يكون، إذا رغب الفلسطينيون في "تحسين وضعهم"، فوفقا لهذه العقلية العنصرية لا يمكن مساواة حقوق طموحات الفلسطينيين بمن هم "أعلى" منهم، وفي هذه الحالة اليهودي الإسرائيلي هو "ممثل الحضارة في وجه التخلف".
لذا الحديث عن حل "الدولتين" في سياق المخطط الأميركي – الإسرائيلي لا يغيّر من كونه الشق النهائي من تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، فمنذ انطلاق المشروع الصهيوني، والنكبة ومسلسل عملية السلام، واتفاقيات أوسلو وأخواتها، لم يكن هناك مكان لحل دولتين، إسرائيلية وفلسطينية، أو دولة واحدة علمانية ديمقراطية، لأنها جميعها سعت إلى تثبيت التركيبية الصهيونية للكيان المحتل، فأي حل آخر يتطلب إنهاء التركيبية الاستعمارية العنصرية التي لا تدع مكانا لحرية ومساواة واستقلال على أرض فلسطين التاريخية. وصفقة القرن هي امتداد للمشروع الصهيوني، وتثبيتا لأمن إسرائيل الذي يتطلب قتل الهوية الفلسطينية، والهيمنة العسكرية الأمنية الاقتصادية على المنطقة برمتها، فلا مكان لأي كينونةٍ وطنية فلسطينية فيه. ومع أن هذا واضح، يوجد من سيدعو الفلسطينيين إلى القبول بحجة السؤال القديم الجديد: ما هو البديل؟ وكأن ما تعرضه الخطة الأميركية مخطط سلام آمن وعادل، أو على الأقل يضمن الحد الأدنى لحياة حرّة وكريمة للشعب الفلسطيني، إلا إذا اعتقد هؤلاء أن متطلبات الشعب الفلسطيني يجب أن "تتأقلم" مع الأمر الواقع، وهي كلماتٌ تعني عملياً الخنوع والخضوع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية على حياتهم، وبشكل كامل، وموافقتهم ورضاهم.
قبول الفلسطينيين ببنود الخطة الأميركية، كما تدعو أصوات عربية متزايدة، يعني أن عليهم القبول بالسجن الطوعي، والتخلي عن حقوقهم وحقوق أولادهم، ويتم التفرج عليهم وهم في أقفاص "طوعية،" لا تنطبق عليها أي من المواثيق الدولية الخاصة لاحتلال، إذ تحل كل القوانين والتشريعات الإسرائيلية العنصرية محل المواثيق الدولية، ويفقد بذلك الفلسطينيون من يساندهم من حركات تضامن، وكذلك المرجعية الحقوقية لوسائل المقاومة والمطالبة في حقوقهم في الحرية وبالتالي إنسانيتهم. وإذا لم يكن هذا واضحا للعرب ممن يدعون الفلسطينيين إلى أن يقبلوا الخطة الأميركية فهذه مشكلة، وإذا كان ذلك واضحاً فهم لا يختلفون عن واضعي الخطة في انتقاصهم إنسانية الفلسطينيين، ولو في حدّها الأدنى.
من يريد أن يصدّق أن هناك حل دولتين في الخطة الأميركية، ويدعو إلى قبوله، حتى لو كان غير منصف، ويتحقق على حساب كل حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة والتعويض، باعتباره حلا معقولا، فهو إما لا يعي معنى قيام دولة أو أنه احتلال يعتقد أن الخطة تسمح للفلسطيني بالقبول أولا، والمفاوضة على المزيد لاحقا، وهذا فهم خاطئ للخطة الأميركية، فالشروط التي وضعتها الخطة لا تبديل فيها، وغير مسموح إلا التفاوض على كيفية إدارة الفلسطينيين تجمعاتهم المعزولة وفقا لقوانين إسرائيلية قديمة ومستحدثة، يتم وضعها لإحكام السيطرة، ولإجراءات "أمنية"، للحد من حركة الفلسطينيين، ولعقابهم، أي شرعنة الأمر الواقع، وجعله أكثر قساوة بذريعة قبول الفلسطينيين الخطة الأميركية.
لم يكن "حل الدولتين" في أي يوم جزءا أصيلا من السياسة الأميركية، حتى بعد توقيع اتفاقية أوسلو. وحين بدأت الإدارات الأميركية تتحدث عنه كانت مرجعيتها ما تقبل به إسرائيل، وليس دعوة إلى إنهاء الاحتلال، ودعما للتحرّر وحرية الشعب الفلسطيني، ولعل الرئيس ترامب أصدق من غيره في مجاهرته في الدفاع عن المشروع الصهيوني، فلم يهمه، منذ البداية، عنوان الحل، إذا أفضى إلى تحقيق رؤية الصهيونية، وذلك لا يعني أن "حل الدولتين"، في أفضل تجلياته، كان أو سيكون حلا عادلا، ولكن ما يتم عرضه ليس حل الدولتين، بل حل الدولة الواحدة الصهيونية العنصرية، ويجري تسويقه حتى يصبح جزءا من الإجماع العربي الدولي، تعطي شرعية سياسية وأخلاقية للمشروع الصهيوني، وماضيه وحاضره ومستقبله، لا مكان لمشروعية مقاومة مسلحة أو سلمية ضد وحشيته، مهما بلغت ذروتها.
المريب، أو المثير للقلق، كشف السفير الأميركي، ديفيد فريدمان، في مقابلته مع "الجزيرة" إن هناك اتصالات خلفية بين الإدارة الأميركية وقيادات فلسطينية، موحيا أنها تسمح ببدء حوار بين الطرفين، ولذا من الضروري التذكير أن الحديث عن حل دولتين موهوم ليس نقطة بداية، بل نهاية أي احتمال لأي حديثٍ بين الطرفين، إلا إذا كانت السلطة تريد بلع طعم حل دولتين لا وجود له أصلا، وهذا قد يفسّر استمرار التنسيق الأمني، ولكن لا وجود للسلطة الفلسطينية في "صفقة القرن" حتى في سياق دورها الأمني المشين، فلا حاجة لترامب للسلطة، إلا في مقدار توظيف الاتصالات معه تسريع عملية التطبيع الإسرائيلية العربية، فالوضع يتطلب مواجهة المخطط، لا الحوار مع واشنطن، ومن لا يستطيع فليرحل.