دولي

صلاة من أجل الجلّاد

 

في أدبيات المآتم العربية القديمة، كان في وسع أهل الميت الذين لا يتقنون فنون اللطم والندب أن يستأجروا نساءً متخصصاتٍ لهذه الغاية، لقاء مبالغ مالية متفق عليها، مع إمكانية رفع الأجرة وفق همّة "الندّابة"، وقدرتها على "اللعلعة" و"الولولة" والعويل. أما في أدبيات المآتم الجديدة، وبعد أن ضربت "الحداثة" أطنابها في بعض الأصقاع العربية، صار متاحًا استبدال الندّابة بشخصيّاتٍ أرفع مكانة وأبلغ إقناعًا لأهل الموتى والمعزّين من "الندّابة" القديمة؛ ومنهم، مثلًا، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، محمد العيسى، الذي زار معسكر أوشفيتز النازي، في بولندا، وأمّ صلاة جماعية، احتفاء بالذكرى الخامسة والسبعين لتحرير سجناء يهود من المعسكر، مع التذكير بأن موجبات التحديث فرضت استبدال العويل بالصلاة هذه المرّة، أما "الإيجار" فثابت، وإن دفعه "الجيران" لا أهل الميّت.

وللإنصاف، لا يسعنا غير التأكيد أن أهل الميّت الذين لم يغلقوا باب المأتم منذ 75 عامًا فتنهم هذا الأداء غير المتوقع من "الندّابة" الجديدة، بدليل أن الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلية استبدلت دموع المأتم ببهجة غامرة، وراحت تشيد بهذا الأداء الذي اعتبرته "خرقًا" عربيًّا جديدًا في جدار التطبيع الذي يزداد هشاشةً، يومًا بعد يوم، بفضل شخصيّات من أمثال المطبّع السعودي محمد سعود الذي استقبله فلسطينيو القدس بالأحذية، وكالوفد البحريني الذي ضم 24 شخصًا وجال شوارع القدس، وعلى غرار الدبلوماسي العُماني الذي صلّى في المسجد الأقصى، فيما تدين زعامة الاختراق لأمراء من طراز وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد الذي استذكر أخيرا ضحايا المحرقة اليهودية بعويلٍ كثير، وقفز عن ضحايا محرقة الفلسطينيين على يد الصهاينة، فاستحقّ ثناء بنيامين نتنياهو، الذي اعتبر هذا "الندب" نتاج "جهود بلاده نحو التطبيع".

أيضًا، وللإنصاف، لا يسعنا إلا الإقرار بدهاء الجيل الجديد من بعض أمراء دول الخليج، ممّن أحدثوا خرقًا خلفيًّا في جدار التطبيع، عبر توظيف الدين ضد الدين، و"المأساة" ضدّ المأساة، ففي التوظيف الأول، رأوا أن أنجع السبل لإفحام المناوئين للتطبيع على خلفياتٍ دينية، أن يأتي التطبيع من باب "الصلاة" وإقامة الشعائر الدينية، على اعتبار أنهم لا يزورون إسرائيل، ولا يصافحون العدوّ، إلا من أجل أداء ركعتين في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ولا بأس أن تتطوّر المصافحة، مستقبلًا، إلى إقامة علاقاتٍ دبلوماسية، وبناء أحلاف عسكرية، ما دام الهدف هو ذاته، وما دامت "الغاية تبرّر الوسيلة"، وفي هذا ردّ على الفلسفة الصهيونية نفسها بمثلها.

أما باب التطبيع الآخر، "المأساة"، فيخاطب الوجدان العربيّ النازف بالجرح الفلسطينيّ ذاته، وكأني بقادة التطبيع وعرّابيه يرمون إلى التذكير بأن ثمّة "مأساة" أعظم فداحة ينوء تحتها المحتلّ الذي ما جاء إلى فلسطين إلا بسببها، ومن ثمّ ينبغي التعاطف معه، والسماح له بالغزو والاحتلال، واعتبار مقاومته من أشكال "الإرهاب" إن دعت الحاجة؛ فمأساته أزيد، وجراحُه أعمق، بدليل أن لا مأتم استدرّ تعاطفًا عالميًّا بهذا الحجم كمأتمه، في حين لا يُذكر المأتم الفلسطينيّ إلا في مقابر الشهداء.

من هذين البابين، دخل أساطنة التطبيع الجدد، غير أنهم سيخرجون من الباب ذاته، أيضًا؛ لأن المؤمن الحقيقي يدرك الفرق بين صلاتي الهزيمة والانتصار، ويعرف متى يصلّي في المسجد الأقصى ومتى يمتنع. ولأن المبتلي بمأساة الاحتلال يعلم الفرق بين مأساة عرقيّة، لم يختلف فيها الجلاد عن ضحيةٍ هربت بعرقها قبل روحها لتمارس عنصريّة العرق في فلسطين، ومأساة شعب يجلده العالم كله، يوميًّا، وهو يؤازر المحتل عليه، وينكر حقه في وطنه وترابه. والأنكى أن الشقيق بات يردّد النغمة ذاتها، ويصلّي من أجل الجلاد لا الضحية. وهؤلاء لن يستحقون أي مأتم، عندما تسحقهم شعوبُهم عمّا قريب.

من نفس القسم دولي