دولي

فلسطين و"أوسلو" والمحكمة الجنائية الدولية

لم تنطو العمليات المُفضية إلى الاتفاقات على مشاركة جميع مكونات الطيف السياسي

 

استند مكتب المدَّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية إلى عملية واتفاقات إعلان المبادئ بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية (أوسلو) في طلبها المرفوع إلى المحكمة، بموجب المادة 19(3) لإصدار قرار بشأن نطاق اختصاص المحكمة في فلسطين (المشار إليه فيما يلي "طلب المدعي العام")، غير أنه كثيرًا ما يُساء فهم الأساس القانوني المشكوك فيه لعملية أوسلو، وما انبثق منها من اتفاقات، وكثيرًا ما يُعرَض بطريقة خاطئة، سواءً من حيث المضمون أو التطبيق.

 

 يَرِد هذا الفهم الخاطئ في طلب المدعي العام، وينجم عنه قصورٌ في تمثيل الحقوق الفلسطينية والولاية القضائية لفلسطين، سيما فيما يتعلق بالجرائم والنطاق الجغرافي المشمول ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، تصافح، في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ورئيس حكومة إسرائيل، إسحاق رابين، في حديقة البيت الأبيض، بحضور الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، في لحظةٍ عدَّها الحاضرون من دون شك مناسبةً تاريخية. وكانت تلك المناسبة بدايةَ التوقيع على مجموعةٍ من الوثائق (أوسلو الأولى) المنبثقة من عملية أوسلو بين ممثلي دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. يفترض هذا الاتفاق والاتفاقات  

""أوسلو" محاولةً غامضة ومعيبة لإحلال السلام، تبنّت مقاربةً إزاء القانون الدولي، تقوم على فكرة استثنائية القضية الفلسطينية"الأخرى (واي ريفر، مدريد .. إلخ) المرتبطة مباشرة بعملية أوسلو (المشار إليها فيما يلي بعبارة "الاتفاقات") التي وقعها الممثلون الإسرائيليون والفلسطينيون حلَّ الدولتين هدفا أساسيا بعيد الأجل، وترتئي استحداث مناطق مؤقتة خاضعة لإدارات مختلفة (مثل المناطق "أ"، "ب"، "ج").

وعلى الرغم من عيوبها، شكلت هذه الاتفاقات الأساس والإطار لمساعي الدول والأمم المتحدة، وحاليًا المحكمة الجنائية الدولية الرامية إلى معالجة الانتهاكات العديدة للقانون الدولي، وإحلال السلام في المنطقة، في نهاية المطاف. وعلاوة على ذلك، شكَّلت عمليةُ أوسلو الأساسَ للمطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، الأمر الذي أثار أيضًا مسألة اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

كانت عملية أوسلو محاولةً غامضة ومعيبة لإحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، تبنّت مقاربةً إزاء القانون الدولي، تقوم على فكرة استثنائية القضية الفلسطينية، الأمر الذي أضعف موقف الحقوق الفردية الفلسطينية، والمطالبة الجماعية بتقرير المصير. وتُعدُّ الاتفاقات قاصرةً من أربعة جوانب على الأقل:

أولًا، لم تنطو العمليات المُفضية إلى تلك الاتفاقات على مشاركة جميع مكونات الطيف السياسي الفلسطيني، ناهيك عن عامة الإسرائيليين والفلسطينيين الذين كان ينبغي، بموجب القانون  الدولي، أن يحظوا بفرصة لتقرير مستقبلهم من خلال الاستفتاء، مثلًا، إعمالًا لحق تقرير المصير. ثانيًا، لم تتطرّق تلك العمليات إلى القضايا الأساسية المُسببة للأزمة، كما يُقرُّ طلب المدعي العام، وإنما أشارت إليها بمسمّى قضايا "الوضع النهائي" التي ستُحلُّ في المستقبل، وليس من خلال الاتفاقات نفسها. والقضايا المستثناة من الاتفاق هي: القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع الدول المجاورة، القضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك. ثالثًا، يتسم مضمون الاتفاقات المنبثقة عن عملية أوسلو بأنه مُبهم وملتبس للغاية، فيما يتعلق بالتزامات إسرائيل، سيما إزاء القانون الدولي الإنساني والحقوق الفلسطينية. رابعًا، وهي النقطة الأهم، وفّى الممثلون السياسيون الفلسطينيون بمعظم التزاماتهم بموجب الاتفاقات، إلا أن الحكومة والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم تفيا سوى بالقليل، الأمر الذي يشكّل خرقًا لمضمون الاتفاقات وروحها، أمّا طلب المدعي العام فلا يُبرزُ هذه الحقيقة، وإنما يشير إليها بإشارةٍ محدودةٍ فقط.

وباختصار، بعد الاخفاقات التي شهدتها السنوات الخمس والعشرون الماضية، لا يمكن اتخاذ الاتفاقات المنبثقة من عملية أوسلو أساسًا متينًا لإقامة الولاية القضائية للمحكمة على الجرائم المرتكبة في الأرض الفلسطينية. وفي ضوء الاختلالات الهيكلية في ميزان القوة، وغياب آليات المساءلة والمحاسبة الحقيقية المستندة إلى القانون الدولي، فإن تلك الاتفاقات لا تعدو أكثر من أنها ترتيبات أمنية تعمل على استدامة الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وتيسير التوسع الاستيطاني، وفرض السيطرة على الضفة الغربية.

ضمّت إسرائيل، في غياب الالتزامات الواضحة وآليات المساءلة الفعالة، أجزاء واسعةٍ من القدس، وارتكبت عددًا لا يُحصى من الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، 

"ارتكبت إسرائيل عددًا لا يُحصى من الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وقمعت اللاجئين واستبعدتهم" وقمعت اللاجئين واستبعدتهم، ودأبت على تحفيز بناء المستوطنات على نطاق واسع. وضمَّت إسرائيلُ كذلك الجولان المحتل، وثمّة مقترحات، سيما في ضوء خطة الحكومة الأميركية المسمّاة "السلام من أجل الازدهار"، لضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية "بشكل قانوني" في محيط المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.

وبعبارة أخرى، لم تُساهم الاتفاقات العديدة المنبثقة من عملية أوسلو في حل الصراع، بل يُقال إن عدم وضوح الالتزامات الواردة فيها مكنَ من ارتكاب كثير من تلك الانتهاكات. ومع ذلك، وعلى الرغم من تاريخ عمليات السلام الفاشلة هذه، إلا أن المحكمة الجنائية الدولية كثيرًا ما تشير إلى مضامين الاتفاقات المنبثقة من تلك العمليات.

من نفس القسم دولي