دولي

"صفقة القرن" بين الأسى والتواطؤ الهزيل

ختَمَ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تسريبات صهره جاريد كوشنر بخصوص ما سمّاها "صفقة القرن"، فكان مؤتمره الصحافي، حيث عرض بعض تفاصيلها، وإلى جانبه، مغتبطاً، بنيامين نتنياهو. لم تكن هذه التفاصيل جديدة، أو على الأقل بعضها: القدس، المستوطنات، حدود الدولة الفلسطينية، حقوق فلسطينيي الشتات، وكلها التهمتها الصفقة؛ وكما يفعل الذئب مع النعجة، راح ترامب يمنّن الفلسطينيين بأنه إنما بذلك يقدّم لهم فرصة بأن يسمح لهم بدولة؛ ودعَمَه نتنياهو الذي أنّب الفلسطينيين على عزّة نفسهم، ووعَظَهم بحكمة قبول الصفقة، مادحاً "واقعيتها". 

من لبنان، ردود الفعل العفوية الأولى على الصفقة تصدّرت الشبكة الافتراضية؛ وكأن كابوساً جديداً جاء ليوقظ روّادها من كوابيسهم اليومية. وسط ثورتهم العارمة، ومهاناتهم اليومية، ومصيرهم المجهول بين هجرة ومجاعة... استيقظت ذاكرة الكهول من بينهم، وقليل من الشباب، فاستحضروا زمن ازدهار القضية الفلسطينية، بالصور والكلمات والألحان والأسماء والقصائد. شيء من الإحساس بالذنب على نسيان ما كان محور حياتهم، شيء من الحنين الرومنطيقي، وعودة محمود درويش، وقصائده، والمديح للقادة الفلسطينيين السابقين، وذكريات وردية لتلك المرحلة من شبابهم، من نشوتهم بقوةٍ لم تتمكّن منها، ولو لبضع سنوات، أنظمة حاكمة بعيدة أو قريبة، ولا إمبرياليات، فكانت هذه طريقتهم برفض الصفقة، تلك هي إمكاناتهم؛ أو هذا ما أصبحت عليه هذه الإمكانات، وسط كل ما نعرفه من مصائب حلّت على مسارهم. وكان هذا أضعف إيمانهم، يعوّضون بالتذكّر الحسن، ما صاروا عنه اليوم عاجزين، متفرّجين، أمام الانهيار التام لأحلام شبابهم.

على الأرض، في لبنان أيضاً، قامَ الفلسطينيون بما هو مُتاح لهم: تظاهروا استنكاراً للصفقة في مخيماتهم؛ "داخل حرَم المخيم"، وهم محاطون بنقاط تفتيش عسكرية للجيش اللبناني، فليس  مسموحاً لهم أكثر من ذلك؛ حتى لو كانت الكارثة الاقتصادية التي حلّت على اللبنانيين قد أصابتهم بدرجةٍ مضاعفة، كونهم الأفقر من بين الفقراء. خذْ هذه الأمثلة: عندما قُبِض على أحد متظاهري الثورة منذ شهرين، وتبيَّن أنه فلسطيني، ضاقت الألسن بالشكوى من هذا "العمل الطائش الذي لا يفيد الثورة" .. أيضاً: كلما نطق أحد المتظاهرين بلهجة "مشبوهة"، سورية أو فلسطينية، كان المراسل يسأله عن جنسيته ليطمئن المحطّة، فلا يشوبها شائبة التكلم مع "منْدسين". أما مخيمات سورية، فأزيلت من الوجود، بعد تحطيم المخيم الأكبر، اليرموك، ومحاصرة أهله وتجويعهم. وليس معروفاً بالضبط أين تناثر أهلها، أين هاموا، أين استقرّوا، ولو "مؤقتاً". والوجود الفلسطيني الوحيد الباقي على قيد الحياة في سورية يعود إلى الفصائل الفلسطينية التي وضعت سلاحها في خدمة بشار الأسد.

المهم، أن ردتَي الفعل الآنفتين هما الأكثر صدقاً بين ردود الفعل الأخرى، والأقل مقدرةً أيضا على تقرير أي أمر يتعلق بمصير أصحابها، ذلك أن "مسؤولي" الشعبين، أو الشعوب المحيطة، تجاوزوا بخطابيتهم حدود عواطف المتظاهرين والكتاب، بل زايدت عليهم بادّعاء القدرة على الفعل الميداني. أليسوا هم الحاكمون؟

السلطتان الفلسطينيتان، في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدتا وكأن الصفقة وقعت على رأسيهما بغتة، من دون إنذار. مع أن تسريباتها كانت تشي بسخائها في منح مزيد من الأراضي للدولة الإسرائيلية، وبمليارات موعودة، وبانتزاع ما تبقى من استقلالٍ أمني وعسكري .. ولكن، اكتشف الاثنان، "مسؤولا" الضفة والقطاع، فجأة، أن وحدة الفصائل كفيلةٌ بإفشال الصفقة، فجالا في محاسن الوحدة بينهما، بعدما أذاقا "محكوميهما" من الفلسطينيين أنواعاً مختلفة من الغَلَبة.

عن سورية لا تسأل. كما سبق آنفاً.. ومع ذلك، يقوم النظام بالواجب الخَشَبي، فتصدر وزارة الخارجية السورية بياناً، على أثر تقديم ترامب الصفقة، "يدين صفقة القرن التي تمثل وصفة للاستسلام لكيان الاحتلال الإسرائيلي الغاصب". وتجدِّد الوزارة في البيان نفسه "وقوفها الثابت مع الكفاح العادل للشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه المشروعة". وعلى وزن عبارات الزميلة السورية، أعلمتنا وزارة الخارجية العراقية "ان العراق يُؤكّد وُقوفه مع إخوانه الفلسطينيّين في دفاعهم عن حقوقهم المشروعة، ومنها: حقُّ العودة، وإقامة دولتهم المُستقلة وعاصمتها القدس الشريف".

كل هذه الكلمات، المنسوخة عن دفاتر مهترئة، لم تتفوق عليها إلا ردود الفعل اللبنانية الإعلامية والرسمية على مؤتمر ترامب عن الصفقة. الإعلام الممانع، صاحب المهارة في التنظير للتلاعب بالقضية، أكدت له "الصفقة" أنه، هنا أيضاً، كان على حق، فاسترسل في هجاء السلام، والتغزّل بالسلاح، في عدم ثقته بـ "أوسلو"، وذمّ الإمبريالية الأميركية والصهيونية. كما يجب أن يفعل في اللحظات المشابهة، فلا جديد يُذكر ميدانياً، خصوصا أن الصواريخ "الدقيقة" مجمّدة الآن عن العمل بانتظار الاتفاق، أو عدم الاتفاق الإيراني الأميركي.

الأقرب إلى الكرنفال، كانت الأقنية التلفزيونية التي وجدت في "صفقة القرن" مادّة تخرج المشاهد من رتابة الثورة، فيرتفع "الرايتنغ". والأمثلة هنا لا تُحصى: واحدة من الأقنية المعروفة  بتجاهلها، وأحيانا عدائها للفلسطينيين، خصّصت أحد أهم برامجها الحوارية، لقضيتهم: استجلب معدّوه لاجئين فلسطينيين إلى الأستديو ليكونوا "جمهوره" الحيّ. وضع مقدم الحلقة الكوفية الفلسطينية على أكتافه، قرأ النص الكامل لأغنية فيروز "زهرة المدائن"، قارنَ، ساخطاً بين "صفقة القرن" ووعد بلفور.. وفي حلقة أخرى، والقناة نفسها، ومضيفها معروفٌ بمناقرته ومكايدته للضيوف، يقطع وصلاتهم على طول الخط، يستفزّهم، يزعجهم. في حلقة أرادها مخصّصة لـ"الردّ على الصفقة"، استضاف هذا المحاوِر "خبيرا" في الشأن الفلسطيني؛ وكانت أكثر طرافة. "الخبير" أخذ مجده بالكلام من دون أي انقطاع، كأنه يُحاضر لجموع، فيما المذيع مشدوهٌ، صامتٌ، لا يعرف شيئاً ربما عن القضية، أو عن فلسطين، يحاول أن ينصت لحديث ضيفه، ولكنه يضيع، فينعس، ولا يخضّ سُباته غير ما تَفهم أنه تعليمات المخرج، من أنه حان وقت الإعلان التجاري.

مسؤولو الدولة اللبنانية لم يكونوا أقل هزلية. أشهروا صفحات من قاموسهم البائت، واسترسلوا بما تجوده عليهم ذاكرتهم، أو ذاكرة من يذكّرهم، من كلماتٍ مقتولة. رئيس جمهوريتنا أعرب لمحمود عباس عن "تضامن لبنان رئيساً وشعباً مع الفلسطينيين في مواجهة التطورات التي نشأت عما بات يعرف بصفقة القرن". فيما رئيس برلماننا تكلم مع الإيراني علي لاريجاني عن "صفقة القرن والمؤامرة على فلسطين": من أنها "تجهض آخر ما تبقى من الحلم الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وهي رشوةٌ لبيع الحقوق والسيادة والكرامة والأرض العربية الفلسطينية بمال عربي"، بينما اكتفى رئيس الحكومة: "ستبقى القدس هي البوصلة وستبقى فلسطين هي القضية

من نفس القسم دولي