دولي

خوارزميّات طريق القدس

ثمّة خطوات رياضيّة منطقيّة ومتسلسلة يمكن، باتّباعها، الوصول إلى حلّ لمشكلة معيّنة. تسمّى هذه الخطوات بمجموعها خوارزميّة (Algorithm- Algorism)، نسبة إلى العالم المسلم أبي عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي. هي بعبارة أخرى "مجموعة من القواعد التي تعبّر عن سلسلة محدّدة من العمليات التي توصل بتكرارها إلى نتائج صحيحة ودقيقة". 

شاع استخدام الخوارزميات في العلوم التطبيقيّة، خصوصا في الحاسوب، حيث يعتمد بشكل عام عليها في التحليل والتسلسل المنطقي لخطوات عدّة لإيجاد حلول للمسائل والقضايا المطروحة. فهي تستخدم، بشكل رئيس وفعّال، في لغات البرمجة والذكاء الاصطناعي. وتزعم هذه المقالة أنّ استخدام الخوارزميات تعدّى العلوم إلى السياسة.

بعد إقصائهم باقي قيادات الثورة الإيرانية وقواها، وبعد استلامهم السلطة، طبّق رجال الدين أو الملالي خوارزميّةً من نوع خاصّ لإعادة بناء الإمبراطورية الفارسية تحت عباءة جديدة. كانت أولى خطوات هذه الخوارزمية إحكام السيطرة على الداخل الإيراني بالحديد والنار، وقمع كلّ حراكٍ شعبيٍّ من أيّ خلفيّة أتى. لا فرق بين أن تكون عربياً، آذرياً، كردياً أو حتّى فارسيّاً. وزّع هذا النظامُ الظلمَ بعدلٍ على الجميع. بنى الملالي دولةً داخل الدولة، فجهاز الحرس الثوري يستحوذ على نصيبٍ كبير من المؤسسات والمشاريع التي تدير اقتصاد إيران، وهو في الوقت نفسه الذراع القوية المختصّة بحماية النظام. وفي العام 1990، تمّ إنشاء فيلق القدس ليكون جزءا من الحرس الثوري لتنفيذ سياسة التمدّد والتوسع في المحيط الخارجي.

كانت ثاني الخطوات، بناء روابط متينةٍ مع أنظمة وجماعات في منطقة الجوار. عمل هذا النظام، كغيره، على الاستفادة من تناقضات المصالح الدولية، ليبني تحالفاتٍ مع الشرق والغرب، ولم  يتورّع عن التعامل مع "الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر"، حسب تسميته أميركا وإسرائيل، في أثناء حربه مع النظام العراقي في ثمانينيّات القرن الماضي. كذلك كانت له علاقة وطيدة مع نظام حافظ الأسد الذي سمح له بمنافسة الإخوة الأعداء من سعوديين وليبيين وعراقيين في لبنان، وهكذا وُلد حزب الله اللبناني الذي لم يتردّد أمينه العام في إعلان نفسه وجيشه جنودا تحت راية الوليّ الفقيه. وباستخدامه سرديّة "المظلوميّة الشيعية"، استطاع النظام الإيراني أن يشكّل مرجعية دينية موازية لمرجعيّة الشيعة العرب، فباتت قم تنافس النجف، مع مرور الزمن.

كذلك استند نظام الملالي في شرعنة فكرة تمدّده التي بات يُشارُ إليها بعبارة "تصدير الثورة" إلى دعامة ثانية، هي قضية تحرير فلسطين. رفع هذا النظام شعار تحرير القدس لفظيّاً، في مواجهة الأنظمة العربيّة التي بدورها لم يتجاوز فعلها ساحات التنديد والشجب والاستنكار، فما دام الأمر كلاماً بكلام، فالنصر حليفُ صاحبِ الصوت الأعلى إذن. لكنّ هذه الرافعة السياسية كانت من أكبر أوراق التغلغل في المحيط العربي وأقواها، باعتبار أنّ قضيّة فلسطين كانت، منذ الانتداب البريطاني، الجرح الغائر في وجدان الشعوب العربية قاطبة، خصوصا في بلاد المشرق العربي، حيث الصلة المباشرة والتأثر الكبير بمسارات تطوّرها.

هكذا كانت خطوات العمل تتسلسل لتربط بعضها بالبعض الآخر بروابط المصالح والعقائد والشعارات. وبالنسبة للجماعات البشرية من غير الدول، كان الناظم لهذه السبحة هو الدولار. لقد استطاع نظام الملالي أن يربط بهذا الحبل الأخضر المتين، أوثق العُرى بين مجموعات مختلفة من البشر القاطنين في البلدان العربيّة من غزّة إلى صعدة. وهذا كان الميدان الكبير الذي برع فيه قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، حتى تاريخ مقتله في بغداد بغارة جوية أميركية في شهر يناير/كانون الثاني الجاري.

لعب سليماني دوره هذا بسبب الهامش الواسع الذي فتحته أميركا للنظام الإيراني في تنفيذ جزء مهمٍ من سياسة الفوضى الخلاّقة. ما كان لهذا الشخص أن يتحرّك بسهولة، لولا أنّه كان واثقاً من طبيعة دوره، والسماح له بممارسته. يجب أن نستحضر المقارنة بين ما تلقّاه المجاهدون الأفغان، منذ عهد الرئيس رونالد ريغان الذي وصفهم مرّة بالملائكة الشجعان، وزعيم تنظيم الدول الإسلامية (داعش)، أبو بكر البغدادي، الذي ألقى خطبة التأسيس لدولته الخلبيّة في جامع الموصل، تحت أعين أجهزة الرقابة الأميركية المتنوّعة، بدءاً بالأقمار الاصطناعيّة، وصولاً إلى الراصدين الأرضيين، وبين اتساع مسارات حركة سليماني من اليمن إلى غزّة مروراً بالعراق وسورية، وبالطبع لبنان.

في حديث له خلال ندوة أقيمت في معهد الدراسات الدولية في بيروت، بعد أيامٍ من مقتل قاسم  سليماني، قال ممثل حركة حماس، أحمد عبد الهادي، إنّ سليماني وعماد مغنيّة قد زارا غزّة المحاصرة عدّة مرّات، وأنّ الأخير هو صاحب فكرة حفر الأنفاق. وسواءٌ أكان هذا صحيحاً أم مجرّد ادعاءات تُمليها ظروف التأجيج والتصعيد والشحن العاطفي لجمهور هذا المحور، فإنها تدلّ، بشكل أو بآخر، على مدى سعة الهامش الذي كان يتحرّك فيه قاسم سليماني، وبالتالي الدور الإيراني المسكوت عنه في المنطقة.

وحتى نهايات عام 2018، بدا أنّ هذه الخوارزميّة تعمل جيدا، بوصلتها القدس وركبها مرّ من جميع الطرق المؤدية إلى أي شيءٍ ما عدا المقصد النهائي. مشى هذا الموكب في حمص، وانتقل إلى دمشق وريفها، ثم عاد إلى حلب، وعرّج على طريق دير الزور ودرعا، تنقّل بين مدن الأنبار، فاخترق الموصل والرمادي والفلّوجة واقترب من أربيل، ولم ينسَ اليمن السعيد من صعدة إلى صنعاء. ولكنّ ازدياد الثقة بالقبض على تفاصيل الأمور لم يكن حقيقياً، وانهار كلّ شيءٍ، وكأنّه بيتٌ من ورق انكشف فجأة في وجه الريح.

منذ كثّف سلاح الجوّ الإسرائيلي مهاجمة قواعد إيران العسكريّة في سورية، وبعد أن طاولت الملاحقة بعضَها في العراق، بات مؤشّر أسهم إيران في المنطقة يتهاوى إلى القاع. ترافق ذلك كلّه مع استلام الجمهوريين الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، وكان لشخصيّة الرئيس الحالي، دونالد ترامب، دورٌ كبيرٌ في تحجيم هذا البعبع الكرتوني، ليس رأفةً بشعوب المنطقة بالطبع، بل تحقيقاً لمصالح الأمن القومي الأميركي ومصالح ترامب الانتخابيّة.

لقد أظهر ردّ الفعل الهزيل والمضحك على اغتيال قاسم سليماني مدى هشاشة النظام الإيراني وضعفه. ولن تقف تداعيات إسقاط الدفاعات الجويّة للحرس الثوري الإيراني الطائرة الأكرانيّة على مجرّد دفع التعويضات لأهالي الضحايا ولشركة الطيران، بل ستؤثّر على مصير هذا النظام، فمن لا يستطيع التمييز بين طائرة ركّاب مدنيّة أقلعت من مطارات دولته وطيران حربيّ معادٍ، لن يؤتمن على امتلاك سلاحٍ نووي في منطقةٍ من أكثر مناطق العالم حساسية وسخونة وتعقيداً.

 

من نفس القسم دولي