دولي

لا أحد يريد إصلاح الحال الفلسطيني

تعاني الساحة الفلسطينية من مشكلةٍ مزمنة، عنوانها الأداء السياسي، ففي وقتٍ كانت القضية الفلسطينية في غاية الوضوح في الهدف والشعارات، كانت تعاني من ضعف الأداء السياسي من القيادة، للوصول بها إلى ما تستحق من أداءٍ يعطيها المكانة التي تستحق. كما أن هذا الأداء لم يرتقِ يوماً إلى حجم التضحيات الفلسطينية، وكثيراً ما كان يبدّد إنجازات التضحيات الشعبية. ومع الوقت، ازداد هذا التردّي، حتى وصلنا إلى الحضيض الذي جعلنا نترحّم على الماضي القريب، بوصفه أفضل بما يقاس مما آلت إليه الحال.

هذا الوضع الذي شاب التجربة الفلسطينية خلال تجربتها المعاصرة، لم يكن وليد اتفاقات أوسلو وبناء السلطة الوطنية الفلسطينية فحسب، وإنما يعود إلى أكثر من خمسة عقود من تجربة المقاومة الفلسطينية أيضاً. ولكن تجربة بناء السلطة كشفت، بصورة أوضح، التناقض والقصور في الأداء السياسي. وقد بدأت مطالب الإصلاح السياسي مع بناء السلطة الذي تم بالاستعانة بعناصر كثيرة، معروفة بفسادها على المستوى الفلسطيني، وكان متوقعا أن بناء السلطة بمثل هذه الأدوات الفاسدة أصلاً سينجم عنه مشكلة تتفاقم كلما مضى زمن على السلطة، ففي تقريرٍ أعدّته لجنة من المجلس التشريعي الفلسطيني في 1998، أي بعد أربع سنوات من بناء السلطة، تبيّن أن الأغلبية الساحقة من الوزارات الفلسطينية كانت متهمة بالفساد، وفي أحسن 

"كان متوقعاً أن بناء السلطة بمثل هذه الأدوات الفاسدة أصلاً سينجم عنه مشكلة تتفاقم كلما مضى زمن على السلطة" الحالات بالتبذير والهدر. بقي هؤلاء الفاسدون ذاتهم يديرون الوضع الفلسطيني.

كانت الحجّة التاريخية للقيادة الفلسطينية (تحديداً ياسر عرفات) لرفضها التغيير على مدى العقود الماضية تقول إنه "لا يمكن استبدال الخيول في أثناء المعركة". ولأن المعركة طالت كثيراً، هرمت الخيول ذاتها وشاخت وفسدت، ولم تعد تصلح للمعركة أصلاً، فقد استهلكت الحالة الفلسطينية ذاتها على مدى العقود الماضية، فالقيادة نفسها ما زالت تتربّع على عرش القيادة السياسية الفلسطينية منذ عقود، والتجديدات التي تمّت، بحكم الوفاة والاغتيالات الإسرائيلية، لم تقم على أساس الكفاءة والنضالية، بل على أساس الولاء الشخصي، وبعد الصراعات والانقسامات، بات الفلسطينيون شعبا ليس له مرجعية.

المشكلة الرئيسية التي عانت منها السلطة، وما زالت، عدم بنائها على قاعدة مؤسساتٍ بمرجعيةٍ واضحةٍ ومستندة إلى قواعد ناظمة، بل تم البناء على أساسٍ من الولاءات الشخصية، فكان هم الجميع إرضاء الرجل الأول، سلطة أو فصائل، حتى لو على حساب القضايا الوطنية. وبناء على هذا الأساس، كان إعلان الولاء للشخص الأساس للحفاظ على الموقع، ولذلك لم يعمل الوزراء على إدارة وزاراتهم على أساسٍ من المتطلبات الوطنية، وما تقدّمه للشعب وقطاعاته والمتطلبات التي تحتاجها القضية الوطنية في لحظاتٍ حرجةٍ من تاريخها. بل تم استبدال العمل السياسي بالوجود الإعلامي على شاشات الفضائيات، وباتت السلطة الفلسطينية، السلطة الوحيدة في العالم التي يفوق عدد وزراء الإعلام فيها عدد الوزراء، فالأغلبية الساحقة من القيادة من 

"كان هم الجميع إرضاء الرجل الأول، سلطة أو فصائل، حتى لو على حساب القضايا الوطنية" وزراء وقادة أجهزة أمنية، كان دوامهم الفعلي في استوديوهات التلفزيون، وكأن الوجود الإعلامي بديل عن الحركة السياسية ميدانياً.

ولأن الساحة الفلسطينية بلا قواعد ناظمة لعملها، ولا أسس للمحاسبة فيها، ركب الجميع مطالب الإصلاح، وفي الطليعة فاسدون ومفسدون. وغريبٌ أن الجميع يعترف بوجود الفساد ولكن من دون فاسدين، وكأن الفساد مقولةٌ نظريةٌ لا تجد تعييناتٍ لها في الواقع الفلسطيني. ومن دون تحديد الفساد وتجسيده بأشخاصٍ محدّدين، ومن دون تحديد الذين أساءوا في أدائهم السياسي، لا يمكن إعادة بناء الساحة السياسية على أسس صالحة لأداء المهام الثقيلة التي تلقيها الظروف الفلسطينية الراهنة على القيادة الفلسطينية.

لا يمكن إخراج الوضع الفلسطيني من مأزقه من دون تغييراتٍ جذرية في آلية العمل السياسي الفلسطيني، لا تقوم على توزيع المناصب على مستحقيها ممن يملكون الكفاءة فحسب، بل أيضا على أسس اشتقاق سياسات يومية من الهدف الوطني أيضاً، أي أن تكون السياسات محكومةً بمصالح الناس في الأراضي الفلسطينية، بمعنى أن تعزّز السياسات صمود الناس، لا أن تزيد في إنتاج آلامهم.

الغريب في الساحة الفلسطينية أن كل المخاطر التاريخية، والمخاطر المستجدّة بحكم سياسات اليمين الإسرائيلي، ومن ورائه إدارة الرئيس ترامب في الولايات المتحدة، لم تدفع باتجاه أي 

"الحجّة التاريخية لرفض التغيير على مدى عقود: لا يمكن استبدال الخيول في أثناء المعركة"" تغييراتٍ إصلاحية، أو محاولاتٍ للقيام بخطواتٍ داخلية للتصدّي لهذه المخاطر الجديدة.

يحتاج الوضع الفلسطيني إلى معالجة جذرية، وكلما تأخّرت هذه المعالجة تصبح أصعب. لا يمكن مواجهة المخاطر التي تهدّد الفلسطينيين والأرض الفلسطينية بهذه البنية السياسية الرثّة. يحتاج الوضع سياساتٍ خلاقة بوصلتها الوطن. والعنوان الرئيسي للتغير في غاية الوضوح، إنه مكتوبٌ على الجدار، كما يقال، إنه المؤسسة التي تستطيع التعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني، المحكومة بآليات رقابة شفافةٍ لكل أداء مالي أو سياسي. على أن تصوغ سياسات المواجهة مع الاحتلال بدل السياسة البليدة القائمة على أساس الصراع الداخلي الفلسطيني. هذا هو الأساس والباقي تفاصيل. لا أحد من القيادات يريد رؤية المخاطر التي تهدّد الوجود الفلسطيني، وهذا العماء الذاتي، لأن لا أحد يريد أن يقوم بالمتغيرات التي تحتاجها الظروف السياسية القائمة. الحركة السياسية لا تقوم على الشعارات فحسب، بل على آلاف التفاصيل من الأداء السياسي على طريق الوصول إلى الشعار/ الهدف. وهذا ما ينقص الساحة الفلسطينية، ولا يبدو أن القيادة الحالية، بكل طيفها، تسعى إلى ملء هذا النقص وتعديل صورة السياسة الفلسطينية الرثّة المتبعة اليوم.

 

من نفس القسم دولي