دولي

هل استنفدت مسيرات العودة غاياتها؟

قبل طرح السؤال عمّا إذا كانت مسيرات العودة وكسر الحصار، والتي امتدت على خمسة وثمانين أسبوعاً بالقرب من أطراف قطاع غزة، قد استنفدت غاياتها، وحقّقت ما كان مأمولاً منها، ينبغي التساؤل، قبل ذلك، عن مغزى القرار المفاجئ بوقف هذه المسيرات، والتعرّف على ماهية تلك الغايات التي دفع أهل القطاع المحاصر في سبيل تحقيقها دماء نحو 350 شهيداً من الرجال والنساء والأطفال، وأكثر من ثلاثين ألف مصاب، دخل نحو تسعة عشر ألف جريح منهم إلى المستشفيات، خرج من بينهم أكثر من 150 شاباً بعاهات دائمة، مبتوري الساق، يلاقي معظمهم الفاقة والإهمال.

والحق أن مبرّرات طرح هذا السؤال كانت قائمةً ومطروحةً على الرأي العام قبل عام على الأقل، إلا أن إعلان "الهيئة الوطنية العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار" عن وقف هذه المسيرات الأسبوعية، تمهيداً لإعادة إطلاقها بعد ثلاثة أشهر، على أساس شهري وكلما دعت الحاجة، أمْلت تجديد طرح السؤال في العنوان أعلاه، وسوّغت العودة إلى مناقشة هذا الأمر مرة أخرى، لا سيما من على هذا المنبر الصحافي الرزين، الذي سبق له أن دعا، عبر عدد من كتابه المرموقين، إلى مراجعة أداء المسيرات، وناقش جدوى استمرارها، جرّاء ما نجم عنها من خسائر بشرية باهظة.

بالرجوع إلى السؤال عن الغايات المرجوّة من قرار تعليق المسيرات، نجد أن هذه الظاهرة الكفاحية المجيدة قد نقشت على رايتها، أول الأمر، هدف العودة إلى الديار السليبة، حتى أن أحد قادتها الكبار وعد بعدم توقفها قبل أن يؤم المشاركين الصلاة في المسجد الأقصى، غير أنه بعد مرور عدة أسابيع من انطلاقتها، سقط هدف العودة من الشعار المرفوع، لتظلّ مفردة كسر الحصار متربّعة، وحدها، على صدارة المشهد الكفاحي الذي تم تفريغه، في وقت لاحق، من الشعارات السياسية، والثوابت الوطنية، لصالح المطالب المعيشية، بما في ذلك إمدادات الغذاء والدواء والكهرباء.

فيما بعد، ارتبطت وتيرة المسيرات (خفضاً وتصعيداً) بمسألة التهدئة، وتم تنميطها عملاً روتينياً لا يحظى بخبر صغير في وسائل الإعلام، كما جرى توظيفها في إطار المساومات والتفاهمات الرامية إلى انتزاع بعض المكاسب المتفرّقة، وفي القلب منها الحصول على مساعداتٍ مالية، وفوق ذلك تعزيز سلطة الأمر الواقع في القطاع الذي ازداد فقراً وإنهاكاً مع مرور الوقت، حيث بدت هذه المسيرات الشكل الكفاحي المتاح، بعد أن توقفت الأداة التقليدية عن العمل، ونعني بها إطلاق الصواريخ التي صارت توصَف بالعبثية تارة، وبالخيانية طوْراً آخر، بفعل ما كانت تجبيه من أثمانٍ لا تُطاق.

ومع أن الهيئة العليا للمسيرات ليست هي صاحبة القرار الحقيقي، ولا هي ربّة البيت في القطاع، إلا أنها فعلت ما كان مطلوباً منها، بعد تلكؤٍ وطول مكابرة، وأعلنت، على نحو مباغت، وقف العمل بهذه المناسبة الأسبوعية الروتينية، استجابةً لجملةٍ من الضرورات والمقتضيات التي لا تزال بحاجةٍ إلى الشرح والتعليل، كون التوقف ثلاثة أشهر جاء في ظرف سياسي ملتبس، يحيله بعضهم إلى متطلبات التهدئة اللازمة لإجراء ثالث انتخابات عامة إسرائيلية في غضون عام، ويعلّله آخرون بقطع الطريق على حركة الجهاد الإسلامي إذا ما قررت اهتبال فترة انتخابات الكنيست للثأر من اغتيال "رئيس أركانها" قبل نحو شهرين.

ولعل من يثيرون الشكوك بشأن توقيت وقف المسيرات، المتوقفة واقعياً منذ ما بعد اغتيال القائد العسكري الأول لـ"الجهاد الإسلامي"، يدركون، أكثر مما يدرك المراقبون عن بعد، فحوى الخلافات الصامتة بين المنظمة الأشد ارتباطاً بإيران وحركة حماس الماضيةِ حثيثاً نحو تعزير سلطتها بكل ثمن، وتفويت الفرصة أمام منافسها الذي سبق له أن توعد مراراً وتكراراً بالانتقام لشهيده الكبير، لا سيما وأن هذا الفصيل الذي لا يشتغل بالسياسة لا يزال تحت وطأة مشاعر الترك والخذلان، ويتميّز غضباً بصمت صارخ، عندما وجد نفسه وحيداً، ولأول مرة في تاريخ الثورة الفلسطينية، يقاتل العدو المشترك، من دون إسنادٍ من شركاء الدم والمصير.

على أي حال، لا غضاضة في وقف هذه المسيرات التي استنفدت نفسها عملياً، وتناقصت أعداد المشاركين فيها منذ قمع حراك "بدنا نعيش" على الطريقة الإيرانية في الإسكات والترهيب، غير أنه لا مفر من شرح مسبّبات هذا القرار الذي رحب به الإعلام الإسرائيلي، ودحض الشكوك المتعلقة بدوافعه الحقيقية وتوقيته المريب، على ألا تتولى الهيئة العليا عملية الشرح والتسويغ، وهي الهيئة التي طالب بعضهم بتسميتها "الهيئة العليا لرعاية ضحايا ومعاقي المسيرات".

 

من نفس القسم دولي