دولي

لماذا لا ينتفض الشعب الفلسطيني؟

القلم الفلسطيني

يشهد الوطن العربي هذه الأيام انتفاضات شعبية عارمة، انطلقت من السودان في ديسمبر 2018، وانتقلت إلى الجزائر، ثم عادت وأزهرت في أرض الرافدين، مرورا بعمان واستقرت أخيرا في لبنان شماله وجنوبه بقاعه وجبله.

هذه الانتفاضات أو الثورات أو الهبات، لا يهم ماذا نطلق عليها، في جوهرها مطلبية وليست تغييرا سطحيا في هرم النظام، كما حدث في انتفاضات 2011. فبعد إسقاط نظام بن علي ومبارك وصالح والقذافي، ركن شباب الثورات إلى الوضع الجديد، اعتقادا منهم أن الأمور الآن تسير في طريقها الصحيح، خاصة أن إجراءات شكلية قد تبعت الانتفاضات، كالانتخابات في مصر وليبيا، واستبدال علي عبد الله صالح بنائبه، إلا أن الثورة المضادة عادت وأسقطت تلك الثورات بطريقة أو بأخرى، أو ورطتها في بحر من الدماء. لكن يبدو أن الانتفاضات الحالية مصممة أكثر، وبطريقة سلمية حضارية، على إعادة صياغة النظام برمته مثلما جرى ويجري في السودان والجزائر ومثلما، يحاول المنتفضون في العراق ولبنان تحقيقه.

لقد وصلني أكثر من تعليق على مقالي الأخير (أمة نحو النهضة الشاملة) حول موجة الانتفاضات الحالية، الذي يحمل نبرة تفاؤل، رغم المصاعب العديدة، ورغم لجوء نظام بغداد والميليشيات إلى استخدام السلاح. ونؤكد هنا أن أسلوب التخويف بالقتل والسجن والتعذيب قد يؤجل الانفجار، ولكن لن يمنعه. ومن بين التعليقات العديدة سؤال تكرر لماذا لا ينتفض الشعب الفلسطيني؟ أليس هناك من الأسباب ما يدعو هذا الشعب المناضل إلى الانتفاضة؟ وسأحاول قدر الإمكان أن أجيب على هذا السؤال.

الثورات أو الانتفاضات الجماهيرية الكبرى لا تأتي فجأة وكأنها معجزة من السماء. ومخطئ من يظن أن ثورات الشعوب والانتفاضات الجماهيرية الكبرى يمكن أن تكون فقط استجابة لمؤامرة خارجية، كما يحلو لبعض الكتاب أن يردد على مسامعنا أن كل ما جرى في العالم العربي من صناعة كوندليزا رايس وبرنارد ليفي. الثورات تنفجر بعد نضوج أسباب موضوعية ومادية تدفع بالجماهير وقياداتها الواعية للانطلاق نحو الثورة، من دون حسابات الربح والخسارة. وهذه الظروف الموضوعية تتطلب نضوجا مسبقا يتجسد في شروط أربعة: أولا: عندما تصبح غالبية الشعب متضررة من النظام المستبد والظالم والفاسد، وعلى استعداد أن تقف في وجهه وتدفع الثمن. وثانيا: عندما تبدأ القيادات السياسية والفكرية والنقابية والمدنية تباعد نفسها عن النظام، خوفا من تلويث سمعتها وضرب مصداقيتها. وثالثا: خسارة النظام للتأييد الخارجي، فيصبح شبه معزول دوليا ومكروها داخليا. وأخيرا، عندما تبدأ عملية التعبئة والتشبيك ضد النظام، تتسع وبأشكال مختلفة وتصل إلى نقطة الحسم بانتظار اللحظة المناسبة، التي نسميها الشرارة، أو نقطة التحول التي تطلق طاقات الجماهير فتفجر الثورة، بغض النظر عن فرص نجاحها والقوى المستفيدة منها والمتربصة بها وإمكانية انحراف مسارها يسارا أو يمينا.

في العالم العربي إذن المعادلة واضحة نظام فاسد ظالم مقابل شعب مقهور ومتضرر. الوضع في فلسطين يختلف تماما، والمعادلة ليست بهذه البساطة، فهناك نظامان سيئان في الضفة وغزة. فالسلطة الفلسطينية في الضفة ركبت جهازا فاسدا وقمعيا وهناك شعب مقهور مضطهد، ولكن السلطة والشعب يخضعان معا لاحتلال شرس ومجرم ودموي وعنصري في الضفة الغربية والقدس. وفي غزة هناك نظام قمعي يكتم الأفواه، ويحاول أدلجة المجتمع، وفرض سلطة واحدة قوة واقتدارا، ولكن الناس بمن فيهم سلطة حماس يخضعون لحصار من البر والبحر والجو، والمعبر الوحيد الذي يربط غزة بالعالم الخارجي هو معبر رفح، الذي تحول إلى مختبر إذلال وقهر وخاوات ورشاوى، يفتح يوما ويغلق أسابيع، ولا يمر منه طالب أو مريض أو حاج إلا بعد أن يدفع «المبلغ المحدد سلفا».

إذن بعد تسع سنوات أو يزيد من الدمار الذي سببه فياض- بلير وما سبقهما وما تلاهما من مؤسسات الفساد والإفساد، إضافة إلى سطوة الأجهزة الأمنية في تشليح الشعب الفلسطيني كل وسيلة مقاومة مهما صغرت، وتوسع وتعميق التنسيق الأمني لاعتقال المناضلين، أو قتلهم أو تسليمهم بهدوء، وجدت شعبا الآن مرتبطا بشكل أساسي براتب آخر الشهر، كي يحافظ على الحد الأدنى من عيش بسيط. وعندما يتأخر الراتب أو يصرف جزء منه فقط، كما حدث مؤخرا كوسيلة لترويض الناس والقبول بالأمر الواقع على مرارته، تبدأ الناس تصرخ وتتظاهر وتعتصم، ليس من أجل إنهاء الاحتلال والانتصار للوطن، بل من أجل قوت العيال. ومعظم حركات الاحتجاج التي حدثت في السنوات الأخيرة لها علاقة بالأمور الحياتية أساسا، ما عدا حراك القدس، وظاهرة المرابطين والمرابطات التي ليس للسلطة عليها أي فاعلية. وقد شاركت في مسيرة احتجاج على مجازر غزة صيف 2014 حشدت لها كل الفصائل والسلطة والمجتمع المدني، وتوجهوا إلى مخيم قلندية، ولم يزد عدد المشاركين عن 6000 شخص، بينما احتفل عشرات الألوف بفوز إسبانيا على هولندا في كأس العالم 2010 وفوز الجزائر على نيجيريا 2019 واستقبل محمد عساف بعد فوزه بلقب «أرب أيدول» 2013 بنحو مئة ألف محتفل.

لقد أصبح وجود سلطة أوسلو في رام الله وسيطرة أجهزة حماس على السلطة في غزة عائقا لاشتعال انتفاضة ثالثة سلمية ومتواصلة ومتعاظمة، لكنس الاحتلال وفك الحصار عن غزة. وكي تعطى الانتفاضة فرصة للانطلاق، يجب أن يسبقها أولا إنهاء الانقسام الفلسطيني، وقيام قيادة موحدة وطنية، لتطبيق برنامج نضالي يتعامل أساسا مع الاحتلال والحصار. إن الانتخابات التي دعا إليها عباس، إنما هي نوع من الهروب للأمام، في ظل الانقسام خاصة، ومشروع الدولة المستقلة التي بشرنا بها الأوسلويون تتبخر أمام عيوننا. ولذا نحن لا نتوقع أن تنطلق الآن انتفاضة فلسطينية شاملة ضد الاحتلال والحصار، بل إذا انطلقت فلا بد أن تكون ضد هذه القيادات التي أوصلت المشروع الوطني الفلسطيني إلى هذا المأزق الوجودي، وأي تغيير شكلي ضمن سقف أوسلو لن يؤدي إلا إلى النتائج نفسها. وليكن شعار الانتفاضة المقبلة عندما تكتمل ظروف انطلاقتها: «حلوا عنا جميعا».

عبد الحميد صيام

 

من نفس القسم دولي